الجنيه السوداني بين الحرب والحصار: قراءة في مسارات التراجع النقدي ومستقبل الاستقرار

التدهور في قيمة الجنيه السوداني لا يمثل مجرد أزمة عابرة، بل يعكس أزمة مركبة تطال بنية الاقتصاد والإدارة والسياسة والمجتمع على حد سواء.

0:00
  • لإنقاذ الاقتصاد السوداني واستقرار الجنيه يجب تنفيذ خطة طارئة شاملة.
    لإنقاذ الاقتصاد السوداني واستقرار الجنيه يجب تنفيذ خطة طارئة شاملة.

يشهد الاقتصاد السوداني منذ اندلاع الحرب منتصف نيسان/أبريل 2023، تدهوراً حاداً ومتسارعاً في قيمة عملته الوطنية،إذ تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي حاجز 3.600 جنيه في السوق الموازي بنهاية شهر أيلول/سبتمبر من هذا العام، مقارنة بنحو 560 جنيه قبل الحرب.

هذا التراجع الكبير لا يمكن تفسيره بعوامل اقتصادية تقليدية فقط، لأنه يمثل انعكاساً لمزيج معقد من الأوضاع الداخلية المدمرة، والحروب المركبة التي يتعرض لها السودان سياسياً وإعلامياً واقتصادياً، يُضاف إلى ذلك المتغيرات في مصادر النقد الأجنبي، والتحولات التي طرأت على الميزان التجاري.

مؤشرات التراجع النقدي

تظهر مؤشرات واضحة على حجم التدهور النقدي الذي يعصف بالاقتصاد السوداني، فقد خسر الجنيه أكثر من 84% من قيمته خلال أقل من 3 سنوات، وهو تراجع ينعكس مباشرة في مستويات الأسعار وفي التعاملات اليومية.

ومع هذا الانخفاض المريع في سعر العملة، بلغ التضخم 105%، ما جعل حصول المواطن على السلع الأساسية أمراً بعيد المنال، خاصة بعدما فقد أغلب المواطنيين أموالهم ومقتنياتهم واستثماراتهم في سياق حملة الإفقار المتعمّد التي تعرّض لها السكان الأصليون من قبل "الدعم السريع".

إلى جانب ذلك، انعكس ضعف الاقتصاد على الخدمات العامة، خاصة بعد خروج معظم المستشفيات والمرافق الصحية والتعليمية ومرافق إنتاج وتوزيع المياه والكهرباء من الخدمة، وتحويلها إلى ثكنات ومواقع عسكرية من قبل "الدعم السريع" الذي سيطر على الأعيان المدنية في الولايات التي قام باحتلالها، ثم دمرها بعد خروجه منها.

تسبب كل ذلك في أزمات إنسانية خانقة، وفتح المجال لتدهور العملة الوطنية أمام كل العملات الأجنبية، ولئن تجاوزت قيمة الدولار مقابل الجنيه سقف 3.600، فإن اليورو قفز إلى حاجز 4.250 جنيهاً، وصعد الريال السعودي إلى 963 جنيهاً.

الأسباب الجوهرية للأزمة

تقف وراء هذه المؤشرات مجموعة من الأسباب الهيكلية التي عمّقت الأزمة النقدية. وفي المقدمة يأتي دمار البنى التحتية، ونهب الممتلكات، وطرد السكان وتهجيرهم قسراً، وقد أدى كل ذلك إلى تراجع الإنتاج، حيث توقف النشاط الزراعي والصناعي والخدمي في كل الولايات التي سيطرت عليها "الدعم السريع"، وبغياب هذه الأنشطة فقد الاقتصاد قاعدته الفعلية الداعمة للعمله الوطنية.

لقد اتخذت الأزمة بعداً إضافياً مع ما يمكن تسميته "الحرب المركبة"، إذ لم تعد المواجهة محصورة في ميدان القتال بالسلاح، بل امتدت إلى حرب سياسية ودبلوماسية وإعلامية، ترافقت مع حصار اقتصادي قيّد قدرة السودان على التعامل مع الأسواق الإقليمية والدولية وبخاصة في البعد المالي، وحدّ ذلك من إمكانية الدفاع عن عملته الوطنية.

في السياق ذاته، فقد السودان موارد أساسية للنقد الأجنبي. إذ اتجهت تحويلات المغتربين المقدّرة بنحو 6 مليارات دولار سنوياً إلى خارج البلاد، حيث تحول مباشرة إلى أسرهم المقيمة في المهاجر بدلاً من دخولها إلى السودان وإلى دوراته الاقتصادية ونظامه المصرفي، وتراجعت الصادرات بعد خروج النفط من قائمة الصادر الرئيسة، كما تراجعت الصادرات الزراعية بشقيها النباتي والحيواني، في حين ازداد الاعتماد على صادر الذهب الذي أصبح المصدر الوحيد تقريباً للنقد الأجنبي، ومع ذلك زاد حجم تهريبه، فحرم التهريب الخزينة العامة أهم مورد من مواردها، وفي مقابل كل ذلك زاد حجم الواردات بما يفوق قدرة الاقتصاد على تمويلها.

أخيراً، تراجع عنصر الثقة بالمؤسسات الرسمية، وفقد البنك المركزي والجهاز المصرفي السيطرة على سوق الصرف، بينما أصبح السوق الموازي هو المرجع الوحيد لتحديد قيمة الجنيه. هذا التحول عمّق الأزمة وأدخلها في حلقات التدهور المتسارع.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية

أدى تدهور الجنيه إلى آثار مباشرة على معاش المواطنيين وحياتهم، فقد شهدت أسعار السلع الأساسية ارتفاعاً مضاعفاً خلال فترة الحرب، وظلت في ارتفاع مضطرد، الأمر الذي أدى إلى تآكل القوة الشرائية للأسر، ولم تعد الأزمة مقتصرة على الفئات الفقيرة، بل امتدت لتطال شرائح واسعة من الطبقة الوسطى التي انزلقت نحو الفقر المدقع في ظل سياسة الإفقار التي اعتمدها "الدعم السريع" وشركاؤه هدفاً من أهدافه ليسهم في إنجاح عملية التغيير الديمغرافي الذي عمل عليه بجد واجتهاد. كما انعكس الانكماش الاقتصادي على الخدمات العامة، حيث أدى انهيار شبكات المياه والكهرباء ومحطات إنتاجها إلى أزمات إنسانية وصحية واسعة، خاصة في ظل الدمار الذي أصاب المرافق ذات الصلة، وبشكل خاص المرافق الصحية.

المقارنة مع الحالة السورية

ثمة تشابه بين الحالتين السودانية والسورية، وتبدو المقارنة بين الحالتين مفيدة لفهم أبعاد الأزمة السودانية، فكما كانت الحال في سوريا أثناء الحرب وبعدها، يشهد السودان تراجعاً حاداً في قيمة عملته الوطنية نتيجة الحرب التي دخلت عامها الثالث، وبسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية.

فقد دخلت الليرة السورية مسار التدهور منذ اندلاع الحرب عام 2011، وظلت قيمتها في تراجع دائم لأكثر من عقد، حيث انخفض سعر صرفها من 50 ليرة مقابل الدولار إلى أكثر من 15.000 ليرة في الوقت الراهن، وقد كان لتدخل الدول الراعية للحرب في سورية دور محوري في انهيار الليرة، وهو ما تقوم به الدول ذاتها بغرض إضعاف قيمة الجنيه السوداني في سياق حربها وعدوانها متعدد الأوجه على السودان.

ورغم أوجه التشابه بين البلدين من حيث الحصار والعقوبات الاقتصادية وتدمير البنى التحتية، ودور دول العدوان، فإن الوضع السوداني يتسم بخصوصيات مهمة، أولها سرعة التدهور النقدي، حيث فقد الجنيه أكثر من 80% من قيمته خلال أقل من 3 سنوات فقط، وهو ما يجعله أكثر حدة مقارنة بمسار تدهور الليرة السورية الذي استغرق سنوات أطول، ثانيها أن السودان يشهد انهياراً شبه كامل  في مؤسساته الاقتصادية، في حين احتفظت سوريا رغم شدة أزمتها بحد أدنى من أدوات الإدارة النقدية، وأخيراً، فإن عزلة السودان الدولية أوسع نطاقاً، في ظل غياب داعمين إقليميين أو دوليين بحجم الدعم الذي تلقته سوريا من حلفائها، وهو ما يجعل موقف الخرطوم أكثر هشاشة أمام الضغوط الاقتصادية.

إن التدهور في قيمة الجنيه السوداني لا يمثل مجرد أزمة عابرة، بل يعكس أزمة مركبة تطال بنية الاقتصاد والإدارة والسياسة والمجتمع على حد سواء.

ومن الواضح أن الاستقرار المالي والنقدي في الحاضر والمستقبل يتوقف على قدرة السودانيين، شعباً وحكومة على إدارك طبيعة هذه الأزمة الشاملة والتحرك نحو فتح آفاق جديدة للتعاطي معها ومع القضايا الوطنية كافة، فإنقاذ البلاد فريضة وطنية على الكل، حكاماً ومحكومين، يقتضي إنقاذها مدافعة في مسرح التحرير لاستكماله، ومنافحة في مشهد السيادة والاستقلال لتحصينه، وكفاحاً فكرياً من أجل إنتاج رؤى اقتصادية جديدة قادرة على تجاوز الأزمة التي ما تزال فرص كبحها ممكنة إذا توفرت الإرادة الوطنية، وفي حال توفر رؤى مبتكرة تعظم من موارد البلد الاقتصادية، وتمتنع عن التعامل معها على النحو السائد في مورد الذهب الذي تتعامل معه الحكومة كسلعة تجارية لا كمورد استراتيجي ضامن للتعافي والنهوض الاقتصادي حاضراً ومستقبلاً.

لإنقاذ الاقتصاد السوداني واستقرار الجنيه، يجب تنفيذ خطة طارئة شاملة تبدأ بالإصلاح المالي عبر خفض عجز الموازنة بترشيد الإنفاق وإصلاح الدعم وتحسين الإيرادات الضريبية، ويرافقها إصلاح نقدي جذري يوقف التمويز النقدي ويحرر سعر الصرف ضمن سوق موحد، مع تعزيز أداء البنك المركزي والمصارف عبر منحه استقلالية تامة واعتماد حوكمة رقابية صارمة لمكافحة الفساد وإدارة الاحتياطيات. كما تُركَّز الجهود على إدارة التجارة عبر تحفيز الصادرات وترشيد الواردات، مع الاستفادة المحورية من الذهب كأداة إنقاذ عبر حوكمة قطاع التعدين وجمعه في الخزينة لتمويل الواردات وبناء احتياطي يعزز الثقة، كل ذلك في إطار من الاستقرار السياسي وحماية اجتماعية للفئات الأكثر احتياجاً لضمان نجاح عملية الإصلاح.