بريطانيا ومشروع الدولة الفلسطينية وحقيقة المصالح الإسرائيلية

يظهر نتنياهو ومعه كامل فريق حكومته انزعاجهم من مجرد مصطلح الدولة الفلسطينية، باعتباره أداة تشجيع للسلطة الفلسطينية وإطالة في عمرها بما تمثله من بقايا مشروع سياسي فلسطيني.

0:00
  • يعيدنا طرح مشروع الدولة الفلسطينية إلى سؤال الواقع الجغرافي
    يعيدنا طرح مشروع الدولة الفلسطينية إلى سؤال الواقع الجغرافي "ما بين النهر والبحر"؟

سبق للشهيد المفكر فتحي الشقاقي أن جزم باستحالة قيام دولتين بين النهر والبحر، وذلك قبل اتفاقية أوسلو بعقد من الزمن أو أقل.

ولم يكن هذا الجزم متصلاً بموقفه السياسي كمعارض لمبدأ التسوية مع الكيان الإسرائيلي، ولا متصلاً بعقيدة دينية أو رؤية تاريخية، إنما من واقع القراءة الجيوستراتيجية المتصلة بعلاقة الموقع الجغرافي بالأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية.

يعيدنا طرح مشروع الدولة الفلسطينية في آتون "طوفان الأقصى"، إلى سؤال الواقع الجغرافي ما بين النهر والبحر، وحقيقة المصالح المكتسبة من وجود دولة فلسطينية بجوار الكيان الإسرائيلي، وإن ظهرت هذه الاعترافات التي صدرت أو المتوقع صدورها كضخ دماء جديدة في شرايين مبدأ التسوية حتى في ظل حرب الإبادة على غزة ومشاريع ضم الضفة.

تتربع مساحة الضفة الغربية، وهي الجسم الأساس لمشروع الدولة، بمساحتها المحدودة دون 6 آلاف كم مربع، على مقطع أخدودي من غور الأردن، وهو الغور الذي يصاحب امتدادات نهر الأردن والبحر الميت بمحاذاة الضفة، ضمن مسافة عرض بين نهر الأردن والبحر المتوسط ضمن 80 كم، لتبقى الضفة بعيدة عن ساحل البحر المتوسط بمسافة 15 كم من جهة مدينة طولكرم، تشير هذه المحددات الإستراتيجية إلى نزاع جوهري ثابت بين الكيان الإسرائيلي وأي دولة أخرى مرشحة للتأسيس، وفي ظل الاشتراط الأوروبي وموافقة السلطة الفلسطينية على اعتبارها دولة منزوعة السلاح، إلا ذلك السلاح الذي يكبح جماح الداخل لضمان أمن الجار الإسرائيلي، فإن واقع الحال لا يعطي ناتج دولتين.

ظل زعماء الكيان الإسرائيلي على اختلاف توجهاتهم يصرون في كل حوار سياسي على حتمية السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن، وهو ما ظهر بالأساس منذ بيرس ورابين، وهما من وقّع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير، وما تبعها من اتفاقية السلام مع الأردن، والتي نصت على سيطرة إسرائيلية على أرض أردنية في منطقة وادي عربة، ما يشير إلى طوق إسرائيلي كامل حول الضفة الغربية، مع الانفصال الجغرافي البعيد للضفة عن قطاع غزة في عمق صحراوي ممتد طولاً.

وللتذكير، فإن بريطانيا كراعية للاستعمار الغربي في العالم، هي من تولى نزع فلسطين من سيطرة الدولة العثمانية سنة 1916، وتهيئتها على مراحل متدرجة لهجرة مئات الآلاف من يهود العالم وتوطينهم داخل فلسطين، ثم تسليح هؤلاء اليهود وتنظيمهم في عصابات الهاجاناه والأرغون لفرض قيام ما يسمّى بـ"دولة إسرائيل" عام 1948، بعد القرار البريطاني بالانسحاب من فلسطين عقب اكتمال هذه التهيئة.

وسبق لبريطانيا بعد تحوّلها إلى المذهب البروتستانتي الذي يؤمن بعودة اليهود إلى أرض الميعاد فلسطين، أن بدأت مشوار هجرة اليهود وتوطينهم وحمايتهم داخل فلسطين، منذ أن أقامت لها في ظل الدولة العثمانية أول قنصلية غربية في القدس سنة 1838، ولم تكن ثمة جالية إنكليزية في فلسطين، إنما شرائح يهودية عثمانية منسجمة مع الواقع، حتى بدأت بريطانيا تستقدم اليهود من شتى دول العالم وأخذت تملكهم الأراضي باعتبارهم رعايا بريطانيا، حتى لو كانوا من التابعية الروسية، وقد تولى القنصل البريطاني جيمس فن تنفيذ هذه الخطط من سنة 1856 حتى سنة 1873، ما يسبق ولادة الحركة الصهيونية سنة 1897 بعقود عدة، ضمن مشروع بريطاني استعماري لخلق امتداد بشري سياسي ديني لها في الطريق بين أوروبا وأكبر مستعمراتها في الهند.

اليوم، وبعد مئتي سنة على بدء بريطانيا مشروعها الاستعماري الخاص في فلسطين عبر يهود العالم، وبعد ثلاثين سنة على الاتفاق الإسرائيلي-الفلسطيني على مبدأ حل الدولتين، ومع أكثرية إسرائيلية كاسحة ضد مبدأ حل الدولتين، تأتي بريطانيا وفرنسا مع عدد من الدول الأوروبية بمشروع الاعتراف بدولة فلسطينية، هل هو نوع من التكفير التاريخي عن جرائم "سايكس -بيكو" عندما تقاسم البريطاني والفرنسي بلادنا، باعتبارها كعكة عيد ميلاد الرأسمالية الغربية الاستعمارية على أطلال جماجم المسحوقين الشرقيين؟ أم هي ألاعيب النخب السياسية في أوروبا ضمن الحديقة الخلفية للسياسة الأميركية في خدمة "إسرائيل" باعتبارها رأس حربة المشروع الغربي المتجدد ضد أمتنا؟ 

يأتي الموقف البريطاني والأوروبي والأسترالي في التوجه للاعتراف بدولة فلسطينية ضمن الأهداف الآتية:

أولاً: الضغط السياسي النسبي على "إسرائيل" لضبط إيقاع حروبها ضمن مساحة متقاربة مع رؤية الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، ما يضمن مصالحهما في الشرق الأوسط، وهي المصالح المهددة من مشاريع ترامب المربكة للسياسات العالمية، ولا سيما الأوروبية منها.

ثانياً: تخفيف حالة التوتر المتعاظمة وسط شعوب أوروبا ضد النخب الحاكمة في ظل دعمها للجرائم الإسرائيلية، ولعلّ متابعة مستوى التعاطف الشعبي مع غزة في بريطانيا، تؤرق النخبة السياسية فيها سواء في الحزبين الرئيسين العمال والمحافظين، أو مجمل الشرائح الفكرية والبرلمان والمؤسسات والجامعات والشركات، ما يهدد مكانة بريطانيا وتصدرها للحضارة الغربية، والذي دفع وزير خارجيتها إلى اعتبار الهجمات الإسرائيلية نقيضاً للقانون والقيم الحضارية الغربية.

ثالثاً: يعكس مشروع الدولة الفلسطينية في جانب جوهري منه خدمة عميقة لـ"إسرائيل"، ما يتجاوز مراهقات فريق نتنياهو ورؤيته القاصرة لتعاظم المشروع الإسرائيلي، فبريطانيا ما زالت تعدّ نفسها وصية على الطموح الصهيوني الذي أنجبته من رحم مشروعها الاستعماري وميولها الدينية البروتستانتية، وهي في طبيعة خبث سياساتها ضليعة في احتواء ردود الأفعال، مع عظيم إدراكها لما تحمله الوحشية الإسرائيلية من أصداء تتفاعل بالتدريج عبر العالم كله، خاصة في الجامعات الغربية.

رابعاً: دعمت بريطانيا ومعها معظم الغرب "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر، وذهبوا في معظمهم إلى "تل أبيب" كصهاينة حتى لو لم يكونوا يهوداً، وحرصوا على احتواء ردود الأفعال العالمية ضد الحرب على غزة، ولكن عند توقيت معين بدأت أوروبا وخاصة بريطانيا تعي أن النار بدأت تأكل أطرافها، وظهر بعض ذلك في الانتخابات في معظم أوروبا والتي كشفت في جانب منها عن توجهات شعبية آخذة بالتزايد ضد التحالفات الغربية وسياسات الغرب ضد فلسطين لصالح "إسرائيل"، وبدأ بعضها ينادي بفلسطين من البحر إلى النهر، والذي دفع بريطانيا إلى حظر نشاط منظمة "فلسطين أكشن" ما يؤشر إلى احتمالات كبيرة أن تدفع أوروبا فاتورة هذه الجرائم ليس فقط على الصعيدين الاقتصادي والإعلامي إنما أيضاً استجلاب ردود فعل فدائية.

خامساً: يمثل مشروع الدولة الفلسطينية في هذا التوقيت، حيث غزة تبحث عن لقمة عيش أطفالها وسط مذابح يومية، وحيث الضفة تحت هجمات المستوطنين اليومية بحماية اجتياح عسكري إسرائيلي واسع منذ شهور عدة، وتدمير مخيماتها والتنكيل بآلاف الأسرى، في ظل صمت أوروبي فعلي، وعندما يتكلم الأوروبي فإنه يضغط مالياً على السلطة لتغيير مناهجها الدراسية لصالح السردية الإسرائيلية، ويضغط على أجهزة أمن السلطة للتكيف على إسناد العمليات الإسرائيلية الميدانية خاصة في جنين، ما أعطى بريطانيا مكانة تصدر إعادة تشكيل مؤسسات السلطة وأجهزتها وفق المصالح الأمنية الإسرائيلية، خاصة أن بريطانيا تؤكد صبح مساء حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها.

سادساً: بالنتيجة، تدرك بريطانيا ومعها فرنسا والسعودية استحالة قيام دولة فلسطينية في هذه المرحلة التاريخية، حتى لو سقط نتنياهو، فالبديل شريحة من المتطرفين اليمينيين مثل غانتس أو بينيت وكلهم يدعمون سياسة نتنياهو في الضفة صراحة، خاصة مع الموقف الأميركي المشجع لهذه السياسة، ما يجعل الجهود الأوروبية الخليجية مجرد خضخضة في فنجان من ناحية الطموح السياسي الفلسطيني.

يظهر نتنياهو ومعه كامل فريق حكومته انزعاجهم من مجرد مصطلح الدولة الفلسطينية، باعتباره أداة تشجيع للسلطة الفلسطينية وإطالة في عمرها بما تمثله من بقايا مشروع سياسي فلسطيني، وهو المشروع الذي يؤمن نتنياهو أن هذه المرحلة التاريخية هي الوقت المناسب لدفنه مع القضية الفلسطينية كلها، وهو ما تعدّه بريطانيا تطرفاً لن يساعد "إسرائيل" في تجاوز أزماتها المتلاحقة، لهذا هي تتدخل لحماية "إسرائيل" من نفسها.