الحادي عشر من سبتمبر: الجريمة المؤسسة لقرن الفوضى
لم يعد التاريخ يُكتب في البيت الأبيض، بل في ساحات المقاومة الممتدة من فلسطين إلى كل بقاع العالم.
-
الإعلام وصناعة الخوف.
لم يكن صباح الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 مجرد تاريخ في دفتر الأيام، بل كان زلزالًا حضاريًا هزّ وجدان البشرية. في دقائق معدودة، تحولت نيويورك إلى مسرح لصدمة كونية: أبراج شاهقة تتهاوى كأعمدة هيكل أسطوري، وغبار كثيف يبتلع السماء، والعالم كله يشاهد سقوط أوهام القرن العشرين.
لكن ما بدا هجومًا مباغتًا سرعان ما تبيّن أنه أكثر من ذلك بكثير. لقد كان لحظة مفصلية أُعيد فيها اختطاف التاريخ وإخضاعه لقانون القوة الأميركية. منذ تلك اللحظة، صار العالم محكومًا بمعادلة أحادية: "إما معنا وإما ضدنا". وانفتحت بوابات الحروب التي لم تنغلق حتى اليوم. لم يكن الحادي عشر من سبتمبر حادثًا عابرًا، بل الجريمة المؤسسة لقرن كامل من الفوضى، إذ صار الدم وقودًا للمشاريع الكبرى، وصارت أرضنا مسرحًا لإعادة هندسة الخرائط، فيما يجلس صانعو القرار في غرف مغلقة يرسمون بالدم مستقبل الشعوب.
رواية ميسان وأصوات التشكيك
من بين الأصوات التي كسرت حاجز الصمت، برز المفكر الفرنسي تييري ميسان في كتابه "الخديعة الكبرى" الصادر عام 2002، إذ أكد أن ما جرى لا يمكن تفسيره وفق السردية الأميركية، وأن انهيار البرجين أقرب إلى عملية مدبرة داخليًا منه إلى هجوم خارجي. لم يكن وحده في هذا الرأي، بل التقت معه أصوات أخرى، مثل الفيلسوف الأميركي ديفيد راي غريفين، والصحافي مايكل روبيرت، والسياسي بول كريغ روبرتس، الذين رأوا أن المشهد يحمل بصمات "تفجير متحكم فيه" أو عملية داخلية. حتى نعوم تشومسكي، من دون تبني أطروحة المؤامرة، أكد أن الولايات المتحدة وجدت في الحدث الذريعة الذهبية لتوسيع مشروعها الإمبراطوري.
وهكذا لم يعد صوت ميسان نشازًا، بل بات جزءًا من جوقة ناقدة أعادت طرح السؤال الجوهري: هل كان الحادي عشر من سبتمبر هجومًا خارجيًا، أم خطة داخلية لجرّ العالم إلى قرن جديد من الفوضى؟
من الشعار إلى الإمبراطورية
في خطابه أمام الكونغرس، أعلن جورج بوش الابن عبارته الشهيرة: "من ليس معنا فهو ضدنا". تحت هذا الشعار، تحولت "الحرب على الإرهاب" إلى عقيدة إمبراطورية. بدأت في أفغانستان بذريعة ملاحقة تنظيم القاعدة، حيث أُقيمت قواعد عسكرية دائمة للسيطرة على آسيا الوسطى، ثم جاء غزو العراق عام 2003 بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي لم يُعثر لها على أثر، لتنكشف حقيقة الأهداف المرتبطة بالنفط والموقع الاستراتيجي.
وفي الداخل الأميركي، شرعن "باتريوت آكت" المراقبة الشاملة، وأُنشئت السجون السوداء وغوانتنامو. أما خارجيًا، فقد تمددت القواعد الأميركية من الخليج إلى آسيا الوسطى، وتحولت "الحرب الوقائية" إلى سياسة رسمية.
الاقتصاد كوجه خفي للحرب
لم يكن الحادي عشر من سبتمبر ذريعة عسكرية فقط، بل كان أيضًا فرصة اقتصادية كبرى، فقد استفادت شركات النفط والسلاح وإعادة الإعمار من الفوضى التي اندلعت. عقود الإعمار في العراق ضُخت بمليارات الدولارات لمصلحة شركات كبرى ارتبطت بدوائر صنع القرار في واشنطن، فيما تحولت الشركات الأمنية الخاصة إلى جيوش موازية تحظى بامتيازات تفوق جيوشًا نظامية.
أما مجمع الصناعات العسكرية الأميركي، فقد وجد في "الحرب على الإرهاب" شريان حياة دائماً يضمن استمرار التدفق المالي وتصريف السلاح على نطاق واسع. لقد امتزجت الجغرافيا بالنفط بالمال، ليصبح الدم العربي وقودًا لمضاربات البورصات العالمية.
الإعلام وصناعة الخوف
لم يكن الإعلام الأميركي مجرد ناقل للحدث، بل كان شريكًا في صناعته. صور البرجين المتهاويين تكررت آلاف المرات حتى تحولت إلى أيقونة مرعبة، فيما خُطّت السردية الرسمية بسرعة تحت لافتة "الحرب على الإرهاب".
الكلمات التي نطق بها بوش عقب الحادثة حملت العالم إلى معركة مفتوحة بلا حدود. وهكذا تكرست صورة "المسلم الإرهابي" كخطر كوني، وتمكّن الإعلام من غسل أدمغة الشعوب وإقناعها بجدوى الحروب الاستباقية والاحتلال العسكري، ليكون الذراع الناعمة الموازية للقوة الصلبة في الميدان.
ارتدادات الشرق الأوسط
كان الشرق الأوسط هو القلب النابض لقرن الفوضى. في العراق، انهارت الدولة الوطنية وتحول البلد إلى مختبر للتقسيم والفتنة ونهب الثروات. في أفغانستان، غرقت القوات الأميركية عقدين كاملين في حرب عبثية انتهت بخروج مذل، ثم وصلت "الفوضى الخلاقة" إلى سوريا ولبنان.
سُوّق "الربيع العربي" على أنه بداية الحرية، لكنه سرعان ما انكشف كأداة لإعادة توزيع الأدوار وتفكيك المحاور. تحولت سوريا إلى ساحة استنزاف دولي، ولبنان إلى هدف متكرر للعدوان، في إطار واحد: إضعاف المقاومة وإعادة هندسة المنطقة بما يخدم المشروع الصهيو ـ أميركي.
ربع قرن من الدم
لم يكن الحادي عشر من سبتمبر حادثًا عابرًا، بل لحظة دشّنت قرنًا كاملًا من الحروب المتسلسلة. في العقد الأول، جاء الاحتلال المباشر لأفغانستان والعراق. وفي العقد الثاني، حروب سوريا واليمن وليبيا، وولادة تنظيم داعش من رحم الفوضى نفسها. واليوم، تستمر السلسلة بالإبادة في غزة والعدوان على جنوب لبنان. لقد بُشّر القرن الجديد بأنه "قرن أميركي"، فإذا به يتحول إلى قرن من الاضطرابات والاستنزاف.
ذاكرة الدم ودرس التاريخ
24 عامًا مرّت، وما زال دخان البرجين يخيّم على العالم كأطول سحابة في التاريخ الحديث. لم يكن ذلك الدخان مجرد أثر لهجوم، بل علامة فارقة على ولادة نظام عالمي قائم على الإرهاب المقنن والفوضى الممنهجة.
لقد أرادوا للحادي عشر من سبتمبر أن يكون بداية لقرن أميركي، فإذا به يتحول إلى قرن للمقاومات. من جبال تورا بورا إلى شوارع بغداد، ومن ضاحية بيروت إلى أزقة غزة، كان الرد حاضرًا: الشعوب قد تُكسر لحظة، لكنها لا تُمحى من التاريخ.
النهاية تبدأ من الشعوب
إن درس الحادي عشر من سبتمبر أن الإمبراطوريات، مهما بلغت قوتها، تبقى هشة حين تُبنى على الرمال. الفوضى التي أرادوها قدرًا أصبحت لعنة تلاحقهم، والدم الذي استهانوا به صار ذاكرة مقاومة. لم يعد التاريخ يُكتب في البيت الأبيض، بل في ساحات المقاومة الممتدة من فلسطين إلى كل بقاع العالم. وإذا كانت البداية جريمة مؤسسة، فإن النهاية ستكون شهادة الشعوب بأن قرن الدم يمكن أن يتحول إلى قرن الحرية.