جيوبوليتيك القوة في الأمن القومي الأميركي
إجمالي حجم الدين العام في الولايات المتحدة تخطى وتجاوز عتبة إجمالي الناتج المجلي، أو حجم اقتصادها الكلي، وهو بات يزيد على ٣٦ تريليون دولارًا أميركيًّا! فما مصير ومستقبل القوة الأميركية؟
-
الولايات المتحدة.. مأزق غير مسبوق.
لا تزال الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الأولى، سواء كانت القوة العسكرية، إذ ناهزت موازنتها العسكرية 900 مليار دولار أميركي، أم القوة الاقتصادية، إذ زاد إجمالي ناتجها المحلي على 30 تريليون دولار أميركي؛ ما يفيد بحجم جيوشها وقواتها العسكرية والمسلحة، وكذلك حجم اقتصادها الكلي.
وأصبحت نظرية القوة مركبة، تتوزع بين القوة الصلبة (Hard Power)، والقوة الناعمة (Soft Power)، كما القوة الذكية (Smart Power). وهي اللعبة التي ابتكرتها الولايات المتحدة الأميركية، وتجيدها أكثر من سواها. فماذا عن جيوبوليتيك القوة في الأمن القومي الأميركي؟
المدى الأول والمجال الداخلي الوطني
يقع المستوى الأول للقوة الأميركية ضمن نطاق الحيز الجغرافي والمجال الطبيعي للداخل الأميركي، في إشارة إلى إقليم دولة الولايات المتحدة الأميركية على امتداده.
هو بمنزلة النواة أو الكتلة الصلبة للرأسمالية الأميركية، وبالتالي مشروع التوسع الرأسمالي الأميركي من الداخل إلى الخارج، بما في ذلك التوسع الاستعماري الأميركي، التقليدي والحديث، بحيث تتشكل في داخل هذا المدى الأول والمجال الوطني للولايات المتحدة الأميركية خريطة أكبر وأقوى إمبراطورية في العالم والتاريخ على حد سواء، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة، حتى تاريخه.
المدى الثاني والمجال الخارجي الإقليمي - القاري
ثم يحيلنا المستوى الثاني للقوة الأميركية إلى الامتداد الجغرافي والطبيعي، الإقليمي أو القاري، للولايات المتحدة الأميركية شمالًا وجنوبًا، في إشارة إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية، بما فيهما منطقة أميركا الوسطى، حيث تمثل القارة الأميركية، أو بالأحرى القارتان الأميركيتان، المجال الحيوي (Espace Vital/Vital Space) لإقليم هذه الدولة الأميركية بالجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك، بالعودة إلى عقيدة مونرو سنة 1823، ثم عقيدة ويلسون سنة 1918.
وتبقى هذه المنطقة الجيوسياسية والجيوبوليتيكية على امتدادها، بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، خط الدفاع الأول عن هذه الإمبراطورية، والحديقة الخلفية لها، ما يجعل عملية التوغل فيها أو التسلل إليها خطاً أحمر، لا يمكن لواشنطن أن تتهاون أو تتساهل معه، بأي حال من الأحوال، في مقابل أي قطب عالمي وأي قوة عالمية من القوى العظمى والكبرى في المنطقة وفي العالم. الأمر الذي جعلها هنا متشددة في مواجهة التهديدات كافة، من قبيل تجربة فنزويلا مؤخرًا وراهنًا، وقبلها نموذج كوبا وأزمة خليج الخنازير سابقًا.
المدى الثالث والمجال الخارجي التقليدي
أما المستوى الثالث للقوة الأميركية، فيمتد ما بين أوروبا الغربية، وصولًا إلى ألمانيا تقريبًا، مرورًا بالمحيط الأطلسي، من جهة الشرق، وجنوب شرقي آسيا، وليس انتهاء بكل من اليابان وتايوان تقريبًا، مرورًا بالمحيط الهادئ من جهة الغرب.
وهو يحيلنا، عبر التاريخ وفي الذاكرة، على مشروع مارشال سنة 1947 لإعادة البناء والإعمار، في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا سيما البلدان الحليفة والصديقة، المدمرة والمتضررة من الحرب، والتي تدور في الفلك السياسي والعسكري والاستراتيجي والاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية، وهي على رأس المحور أو المعسكر الغربي، الرأسمالي - الليبرالي.
هذا المجال الخارجي التقليدي هو منطقة نفوذ طبيعية للأميركيين، من ضمن خارطة النفوذ العالمية، تضم مجموعة من الحلفاء والشركاء والأصدقاء التقليديين إلى الولايات المتحدة الأميركية، من مثل البريطانيين "الأنجلوسكسونيين"، كما اليابانيين، ومن ثم الفرنسيين والألمان وغيرهم. هو الأمر الذي لربما قد يفسر محاولات الأميركيين إحكام السيطرة والإطباق على الدول والحكومات في هذه المنطقة بالذات وبالتحديد من العالم، أي العالم الغربي، وإجهاض كل المبادرات والمشروعات والطموحات والتطلعات، من مثل الأطروحة المتعلقة بفكرة الجيش الأوروبي الموحد.
المدى الرابع والمجال الخارجي الاستراتيجي
ويبقى المستوى الرابع للقوة الأميركية، وهو ربما يبدو المستوى الأخير، الأبعد والأعلى، لدى ترتيب مجالات ومديات القوة المركبة في الأمن القومي الأميركي. هو يطال الأماكن والمناطق والأقاليم البعيدة، والتي تندرج ضمن هذا النطاق أو المجال أو الحيز، الجغرافي والطبيعي، الاستراتيجي وبعيد وطويل المدى، الذي يتجاوز ويتخطى المستوى الثالث متوسط المدى، والمستوى الثاني قريب وقصير المدى.
يحلينا المجال أو النطاق الرابع والأخير على العديد من الحروب الأميركية في المنطقة والعالم، من مثل اجتياح العراق سنة 2003، وقبله غزو أفغانستان سنة 2002، من ضمن عقيدة بوش، وكذلك حرب سوريا، وحرب ليبيا وحرب اليمن، إبان ما يُعرَف بالربيع العربي، من ضمن عقيدة أوباما.
فقد تمخضت عن هذه الأحداث تحديات وتهديدات ومخاطر، هي جديدة من نوعها، بل غير مسبوقة، وهي من طبيعة سياسية، استراتيجية، أمنية وعسكرية. ما جعل من الإمبراطورية الأميركية، وفقًا لآراء العديد من المفكرين والمنظرين، الأميركيين والأوروبيين، إمبراطورية منتفخة، مترامية الحدود بطبيعة الحال، وقد تكون مجهدة ومرهقة ومنهكة، لكونها مثقلة بمثل هذه المهمات وهذه الأعباء في تلك الأمكنة البعيدة.
مأزق غير مسبوق
قد تبدو الولايات المتحدة الأميركية الأولى بين مجموعة متساوين بالنسبة إلى البعض، بل إلى الكثيرين، بين مؤيد ومعارض. إلا أن الواقع والحقيقة يفيدان بأن واشنطن ما تزال في صدارة المشهد العالمي، وكذلك في الميزان العالمي للقوى الدولية، وربما من دون منافس، يوازنها ويوازيها، أو لنقل منازع. مع ذلك، فهي تواجه مشاكل جدية، وربما تكون أمام مأزق غير مسبوق!
تبقى الإشارة إلى أن إجمالي حجم الدين العام فيها تخطى وتجاوز عتبة إجمالي الناتج المجلي، أو حجم اقتصادها الكلي، وهو بات يزيد على 36 تريليون دولار أميركي! فما مصير ومستقبل القوة الأميركية؟ وما هو توصيفها وتصنيفها: هل هي قوة متزايدة ومتنامية؟ أم هي قوة متراجعة ومتناقصة ومتهالكة؟ أو ربما هي قوة متجددة ومتمددة؟