إلى أي حد يهدد تصاعد إطلاق الصواريخ توازن المناخ وسلامة "الأوزون"؟

في سباق الإنسان نحو الفضاء، ثمة ثمن لا يُرى بالعين المجرّدة. فبينما تتسابق الدول على غزو المدارات، تتعرض طبقة الأوزون لاختناقٍ صامت، إذ تكشف دراسات حديثة أن انبعاثات الصواريخ قد تعيد عقارب التعافي البيئي عقوداً إلى الوراء، مهددة توازن الغلاف الجوي. ومستقب

  • صاروخ
    صاروخ "أطلس الخامس" ينطلق من قاعدة "كيب كانافيرال" الأميركية عام 2022 (الصورة: الموقع الرسمي للحكومة الأميركية)

في سباق الإنسان نحو الفضاء، ثمة ثمن لا يُرى بالعين المجرّدة. فبينما تتسابق الشركات على غزو المدارات، تتعرض طبقة الأوزون لاختناقٍ صامت، إذ تكشف دراسات حديثة أن انبعاثات الصواريخ قد تعيد عقارب التعافي البيئي عقوداً إلى الوراء، مهددة توازن الغلاف الجوي ومستقبل الحياة على الأرض.

في أعالي الغلاف الجوي، على ارتفاعٍ يفوق ما تصل إليه العواصف وما تدركه الطيور، تدور جزيئات خفية تصارع من أجل البقاء. ليست حربًا بين العناصر، بل بين طموح الإنسان وحدود الطبيعة. هناك، في الطبقة الرقيقة التي تحمينا من الموت الصامت القادم من الشمس، بدأت طبقة الأوزون  تختنق من جديد — ولكن هذه المرة ليس بسبب بخاخات الشعر أو المصانع، بل بسبب الصواريخ التي نطلقها في سبيل "التقدم" و"استكشاف الفضاء".

في السنوات الأخيرة، أصبحت السماء أكثر ازدحاماً من أي وقتٍ مضى. فبينما كان إطلاق الصواريخ حدثاً استثنائياً قبل عقود، صار اليوم مشهدًا أسبوعياً عادياً، بل أمسى في بعض الأحيان استعراضاً تلفزيونياً للتكنولوجيا والطموح.

اقرأ أيضاً: دراسة: الأرض تفقد أوكسجينها

لكن خلف الصور اللامعة والموسيقى المهيبة التي ترافق كل إطلاق، هناك واقعٌ أكثر هشاشة.

فكل عملية إطلاق لا تترك وراءها مجرد حطام معدني أو دخانٍ يتلاشى، بل آثاراً كيميائية تتسلل إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي، حيث لا تهطل الأمطار لتنظف، ولا الرياح لتبدّد. إنها بقايا تبقى هناك، تعيد تشكيل كيمياء السماء ببطءٍ وثبات.

من الأمل إلى التحذير

في سبعينات القرن الماضي، توصل العلماء إلى اكتشافٍ صادم: مركبات الكلوروفلوروكربون (CFCs) — تلك التي كانت تُستخدم في أجهزة التبريد والبخاخات — كانت تدمر الأوزون الذي يحمي الأرض من الأشعة فوق البنفسجية  القاتلة.

كان العالم على حافة كارثة بيئية حقيقية. لكن بفضل بروتوكول مونتريال لعام 1979، جرى حظر تلك المواد، وبدأت طبقة الأوزون رحلة تعافٍ بطيئة وصامتة. بدا وكأن البشرية تعلّمت الدرس.

إلا أن هذا التفاؤل بدأ يتلاشى أمام ظاهرة جديدة لم تُحسب حسابها حينها: التلوث الصاروخي.

فبينما تستعد البشرية لاستعمار الكواكب الأخرى، يبدو أننا نُفسد الغلاف الجوي الذي يجعل الحياة ممكنة على كوكبنا الأصلي.

  • إطلاق مركبة
    إطلاق مركبة "أبولو 8" لصاروخ "ساتورن 5" (المصدر: ناسا)

في دراسة حديثة أجراها فريق من جامعة كانتربري بالمملكة المتحدة والمعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ، استخدم الباحثون نموذجاً كيميائياً مناخياً متطوراً لمحاكاة تأثير انبعاثات الصواريخ حتى عام 2030. النتائج كانت مقلقة:

إذا استمرت وتيرة الإطلاقات بالازدياد على المنوال الحالي، قد تنخفض طبقة الأوزون العالمية بنسبة 0.3% بحلول عام 2030، وقد تصل الخسائر الموسمية في القارة القطبية الجنوبية إلى 4%.

قد يبدو هذا الرقم صغيراً، لكنه في علم المناخ ليس تفصيلاً. فكل عُشر بالمئة يعني زيادة في الأشعة فوق البنفسجية تصل إلى سطح الأرض، ما يعني مزيداً من سرطان الجلد، وإعتام عدسة العين، وضعف المناعة، وتضرر النظم البيئية الدقيقة.

ولأن الأوزون لا يزال أقل بنسبة 2% من مستوياته قبل الثورة الصناعية، فإن أي تباطؤ في تعافيه يعني تأخيراً في شفاء كوكبٍ جريحٍ منذ نصف قرن.

السخام والكلور… العدوّان الجديدان للأوزون

الصواريخ ليست متشابهة. فبعضها يعمل بالوقود الصلب، وبعضها بالوقود السائل أو المؤكسدات الهيدروكربونية، لكن القاسم المشترك بينها جميعاً هو أنها تُطلق مزيجاً معقداً من الغازات والجسيمات الدقيقة:الكلور، السخام، أكاسيد النيتروجين، والمعادن الثقيلة.

تقول الدراسة إن محركات الصواريخ الصلبة هي المصدر الرئيس لانبعاثات الكلور، العنصر الذي يُفكّك جزيئات الأوزون بكفاءة مرعبة.

أما الصواريخ العاملة بالوقود الكربوني، فتنتج جزيئات السخام التي تسخّن الغلاف الجوي الأوسط، ما يُسرّع التفاعلات الكيميائية التي تُدمّر الأوزون بدورها.

إنها سلسلة من التفاعلات التي تبدأ في لحظة الإطلاق، لكنها تمتد لسنوات داخل طبقات الغلاف العلوي التي لا تطالها عمليات التنقية الطبيعية للأرض.

ولأن هذه الطبقات تقع فوق السحب والمطر، فإن الجسيمات التي تطلقها الصواريخ تطفو وتدور حول الكوكب لسنوات، مشكّلة ما يشبه "الضباب الكيميائي" الدقيق الذي لا يُرى، لكنه يترك أثرًا طويل المدى في كيمياء الجو.

السماء كمدارٍ للاقتصاد

من عام 2019 حتى 2024، تضاعف عدد عمليات الإطلاق المدارية 3 مرات — من 97 إلى 258 عملية.

ويُتوقع أن يصل العدد إلى أكثر من 2000 عملية إطلاق سنوياً بنهاية هذا العقد، بفضل سباق الشركات الخاصة والحكومات لإنشاء شبكات الإنترنت الفضائي والمراقبة الأرضية.

ومع كل قمر صناعي جديد، هناك انفجار جديد، وذيل من الدخان الأسود يتصاعد نحو الغلاف العلوي.

تقول الفيزيائية السويسرية إيفلين شتولزر، إحدى المشاركات في الدراسة: "حين نُطلق صاروخاً، نحن لا نُطلقه في الفراغ. نحن نثقب الغلاف الجوي حرفياً، نفتح فيه جرحاً كيميائياً، حتى وإن بدا صغيراً في البداية".

الفضاء لم يعد ساحة للبحث العلمي فقط. بل صار سوقاً، وشرياناً اقتصادياً يعتمد على إطلاق آلاف الأقمار الصغيرة  — "الميغا-كونستليشن" (megaconstellation) كما تسميها الشركات الكبرى.

هذا النمو المذهل في صناعة الفضاء يُترجم إلى تلوثٍ متصاعد لا يخضع لأي إطار تنظيمي دولي. فبينما تخضع انبعاثات السيارات والطائرات لقوانين بيئية صارمة، تبقى الصواريخ خارج هذا النظام تماماً.

إنها المفارقة الكبرى في عصرنا: نحمي الأرض من ثاني أكسيد الكربون، لكننا نفتح السماء لتلوثٍ من نوعٍ آخر.

حين تسقط الأقمار… يبدأ التلوث من جديد

التهديد لا يأتي فقط من الإطلاقات، بل أيضاً من عودة الأقمار الصناعية المحترقة إلى الغلاف الجوي.

فمع نهاية عمرها التشغيلي، تحترق الأقمار في الطبقات العليا مطلقة أكاسيد النيتروجين التي تضر الأوزون، وجزيئات معدنية دقيقة يمكنها أن تعمل كمنصات كيميائية تسرّع من تحلله.

هذه العملية، التي كانت نادرة قبل عقدين، ستصبح متكررة جداً مع تضخم أعداد الأقمار الصناعية.

وتحذّر الدراسة من أن "الحطام الفضائي العائد قد يتحوّل إلى مصدر رئيسي للتلوث الجوي خلال السنوات المقبلة".

اقرأ أيضاً: تحذير من تهديد الحطام الفضائي للأرض!

ورغم ذلك، ما زال فهم العلماء لهذه الظواهر محدوداً.

فالنماذج المناخية التي نستخدمها اليوم لا تشمل بدقة التأثيرات الكاملة لاحتراق الحطام المعدني أو الجسيمات الناتجة عن تفكك الصواريخ في الطبقات العليا.

إنها منطقة غامضة من النظام المناخي — أشبه بمختبرٍ لا نملك مفاتيحه بعد، فهل هناك متسعٌ لإنقاذ السماء؟

برغم الصورة القاتمة، يعتقد الباحثون أن الوقت لم يفت بعد.

يمكن الحد من الضرر إذا بدأ المجتمع الدولي بوضع لوائح تنظيمية لانبعاثات الصواريخ، تماماً كما فُعل مع الغازات الملوِّثة للأوزون في الثمانينيات.

كما يمكن لشركات الفضاء أن تتجه نحو وقودٍ أنظف وأقل إطلاقاً للسخام، وأن تعتمد على تقنيات التبريد العميق التي تقلّل إنتاج أكاسيد النيتروجين.

لكن هذه الخطوات تتطلب إرادة سياسية وتعاونًا دولياً حقيقياً، وهي أمور غالباً ما تتأخر حين يتعارض العلم مع المصالح الاقتصادية.

في النهاية، المسألة ليست علمية فحسب، بل أخلاقية أيضاً.

فبينما نحلم بالوصول إلى المريخ، يجب أن نسأل أنفسنا إن كنا نعرف كيف نحافظ على ما لدينا هنا على الأرض.

إن طبقة الأوزون ليست مجرد حاجزٍ غير مرئي، بل حدّ الحياة ذاته — الخط الرقيق بين الوجود والفناء، وحين نثقبها باسم التقدم، فإننا لا نحرق الوقود فقط، بل نحرق أيضاً جسور الأمان التي تربطنا بالكوكب.

السماء ليست بلا حدود

في نهاية المطاف، تُظهر هذه الدراسة شيئاً أكبر من الأرقام، إنها تذكّرنا بأن كل صاروخٍ يُطلق إلى الفضاء هو إعلانٌ رمزي عن علاقة الإنسان المتوترة مع بيئته:

إصراره على تجاوز الحدود، ورفضه الدائم للاعتراف بأن التكنولوجيا ليست خلاصاً دائماً، بل أحيانًا كارثة مؤجّلة.

السماء، كما يقول العلماء، ليست مكاناً بلا عواقب، وما نفعله هناك، في ذلك الجزء الأزرق الذي كنا نعتقد أنه لا يُمسّ، يعود إلينا على شكل موجات من الأشعة فوق البنفسجية، وارتفاعٍ في درجات الحرارة، واضطرابٍ في التوازن البيولوجي الذي بُني عليه كل شكل من أشكال الحياة. قد يبدو الأوزون صامتاً، لكنه يسجل كل جرحٍ نتركه فيه.

إنه دفتر حساب الغلاف الجوي، الذي لا ينسى، ولا يُسامح بسهولة.

تقول الدراسة إن الأوزون قد يتعافى تماماً بحلول عام 2066، إذا لم نتدخل، لكن في ظل الارتفاع المتسارع في إطلاق الصواريخ، فإن هذا الموعد قد يتأخر عقوداً. ربما يبدو الفارق بسيطاً في التقويم البشري، لكنه في لغة الطبيعة يعني جيلاً كاملاً من البشر سيعيش تحت أشعة أكثر فتكاً، وفي بيئة أقل استقراراً.

إنها المفارقة الكبرى في القرن الحادي والعشرين: بينما نُشيّد تلسكوبات عملاقة للبحث عن حياة في المجرات البعيدة، نقوّض مقومات الحياة في كوكبنا الوحيد القابل للعيش.

ولعل أعظم ما يمكن أن نتعلمه من هذه الدراسة ليس كيف نحمي الأوزون فحسب، بل كيف نحمي قدرتنا على التوازن — تلك القيمة التي فقدناها ونحن نرفع رؤوسنا إلى الفضاء، متناسين أن السماء أيضًا تحتاج إلى تنفّس.

اخترنا لك