"Responsible Statecraft": هل تستطيع مصر وقف حرب إسرائيلية أخرى على إيران؟
بعد عقود من الزمن في الظل الدبلوماسي، تستفيد القاهرة من تحالفاتها القديمة وبراجماتها الجديدة لوضع نفسها بين أميركا و"إسرائيل" وطهران.
-
"Responsible Statecraft": هل تستطيع مصر وقف حرب إسرائيلية أخرى على إيران؟
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يتناول الدور الدبلوماسي لمصر في إدارة الأزمات الإقليمية ووساطتها بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" من جهة، وإيران من جهة أخرى، مع التركيز على الفترة الأخيرة بعد حرب حزيران/يونيو وما تلاها من محاولات للحد من التصعيد في غزة والمنطقة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كانت خطوط الهاتف من القاهرة تعجّ بالنشاط. في سلسلة من المكالمات المُعدّة بعناية، كان بدر عبد العاطي، وزير الخارجية المصري، يتنقل بين نظيره الإيراني، عباس عراقتشي، والمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كل ذلك في محاولة لإنقاذ إيران وأميركا و"إسرائيل" من حافة الهاوية.
قبل أشهر فقط، كان نفوذ القاهرة في أدنى مستوياته، مُطغى عليه من ثروات دول الخليج النفطية. وبينما كان الرئيس دونالد ترامب يُبرم صفقات ضخمة في قاعات اجتماعات مجالس الإدارة المُذهّبة في الرياض وأبو ظبي، أصبحت علاقات أميركا مع حليفتها القديمة مصر مُتوتّرة للغاية. وبلغ التوتر ذروته لدرجة أنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي رفض دعوةً لزيارة البيت الأبيض. كانت نقطة الخلاف هي خطة ترامب الجريئة لإعادة توطين أكثر من مليوني فلسطيني في غزة بشكل دائم، محوّلةً القطاع الذي مزّقته الحرب إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".
ولكن بعد وساطة شاقة، كانت ناجحة في نهاية المطاف، أسفرت عن وقف إطلاق نار هش في غزة، برزت مصر مجدداً كمحاور أساسي في المنطقة. بعد مشاركته في استضافة قمة شرم الشيخ للسلام مع ترامب، واختياره لقيادة قوّة استقرار عالمية مخطط لها في غزة، ينعم السيسي بعودة دبلوماسية. حتى زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، يرى الآن أنّ القاهرة هي المحور، قائلاً: "ما تحتاجه غزة هو سيطرة مصرية".
الآن، تُحاول القاهرة تحقيق إنجازٍ أكثر جرأةً: سد الفجوة بين واشنطن، حليفتها "إسرائيل"، وطهران. المهمة جسيمة. حرب حزيران/يونيو التي استمرت 12 يوماً، وشهدت قصف قاذفات أميركية وإسرائيلية لمواقع نووية وعسكرية إيرانية، أضعفت الدبلوماسية. لكن هذا لم يمنع ترامب، بعد انتصاره في غزة، من التطلع إلى هدفٍ أكبر. في خطابٍ أمام الكنيست الإسرائيلي، تساءل قائلاً: "هل تعلمون ما هو الرائع؟ إذا عقدنا اتفاق سلام معهم [إيران]... ألن يكون ذلك رائعاً؟"
ينبعث هذا التفاؤل بشأن إبرام الصفقات من البيت الأبيض. وصرح ويتكوف، في مقابلةٍ حديثة، بحماس: "أصبح إبرام اتفاق سلامٍ مُعدياً". وألمح إلى حملةٍ دبلوماسيةٍ أوسع، مضيفاً: "نتلقى اتصالاتٍ من الإيرانيين. نحن هنا، كما تعلمون، لنتوصل إلى حلٍّ دبلوماسيٍّ طويل الأمد مع إيران".
وكان ردُّ فعل طهران فاتراً كما هو متوقع. بعد رفضه دعوةً لحضور قمة شرم الشيخ، سخر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي من ادعاء ترامب بتدمير البرنامج النووي الإيراني، قائلاً له: "استمر في الحلم!". ورفض مبادرات الرئيس الأميركي، قائلاً: "إذا اقترنت الصفقة بالإكراه وكانت نتيجتها محددة مسبقاً، فهي ليست صفقةً، إنما فرض وتهديد". ولتأكيد هذه النقطة، كشفت طهران منذ ذلك الحين عن ترسانة صواريخ مُجددة، ما يُشير إلى استعدادها لجولة جديدة من القتال مع "إسرائيل".
ومع ذلك، ففي هذه البيئة المضطربة تحديداً، تُنشئ مصر دوراً فريداً. ينبع نفوذها من مزيج من العلاقات المتجددة، والنتائج المُثبتة، والشراكات الدائمة.
أولها هو تقاربها الهادئ والبراغماتي مع إيران. فبعد أربعة عقود من العلاقات المتجمدة، يُجبر تلاقي الأزمات والفرص القاهرة على إعادة النظر في استراتيجيتها. الدافع الأكثر إلحاحاً هو اقتصادي. فقد أدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، إلى استنزاف هائل لإيرادات قناة السويس، الشريان الاقتصادي الحيوي. وقد أجبر هذا القاهرة على التعامل المباشر مع طهران، التي، وإن كانت تنفي سيطرتها المباشرة، يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها تُمسك بزمام الأمور في الحوثيين. علاوة على ذلك، أدى توسط الصين في تحقيق انفراج سعودي-إيراني عام 2023 إلى تفكيك التكتل المتشدد المناهض لطهران بقيادة دول الخليج، ما منح القاهرة الحرية الدبلوماسية اللازمة للتصرف من دون إغضاب رعاتها الماليين.
ثانياً، والأهم من ذلك، أنّ مصر قد حققت بالفعل نتيجة ملموسة. ففي التاسع من أيلول/سبتمبر، توسطت في اتفاق إطاري بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، مُعيدةً بذلك نظام التفتيش الذي انهار بعد حرب حزيران/يونيو مع "إسرائيل". وجاء هذا الإنجاز الدبلوماسي في وقت وصلت الدبلوماسية الغربية إلى طريق مسدود. فقد أثبتت قدرة القاهرة على التعامل مع العمل الفني القائم على الثقة الذي يعجز عنه السياسيون المتملقون غالباً، مُقدمةً نفسها كوسيط موثوق بين الغرب المتشكك وإيران المحاصرة. وتهدف محادثات عبد العاطي المستمرة مع رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، والمدير العام للوكالة الإيرانية عباس عراقتشي، وويتكوف إلى البناء على هذا الإنجاز الصغير ولكن الحيوي.
ثالث أهم مقومات مصر هو العمق المؤسسي لشراكتها مع الغرب. بخلاف قطر، التي تُعد راعيةً لحماس، أو تركيا، التي لا يزال رئيسها إردوغان صوتاً إسلامياً متقلباً، تُعدّ مصر في القدس وواشنطن داعماً أمنياً موثوقاً به، وإن كان صعباً في بعض الأحيان. بإمكانها التحدث إلى جنرالات "إسرائيل" والدبلوماسيين الأميركيين بألفة لا يضاهيها فيها أيٌّ من محاوري طهران المحتملين.
ولكن يجب عدم النظر إلى هذا الانفتاح الدبلوماسي كمقدمة لسلام شامل. فالعقبات هائلة، متجذرة في السياسة الداخلية للأطراف الثلاثة. فالجمهورية الإسلامية، على الرغم من ضعف "محور المقاومة" التابع لها بسبب الانتكاسات في سوريا ولبنان، ليست كتلةً واحدةً تسعى إلى مخرج.
في الواقع، ترى إيران أن أي اتفاق مع أميركا أو "إسرائيل"، خاصة بعد انتهاك سيادتها، سيكون نفياً للمبادئ الثورية ذاتها التي ترتكز عليها شرعيتها.
في هذه الأثناء، يبدو حديث إدارة ترامب عن الصفقات فارغاً عند مقارنته بأفعالها. فبينما لا يزال احتواء البرنامج النووي الإيراني هو السياسة المعلنة، فإنّ مشاركتها في الضربات على الأراضي الإيرانية وخطابها الذي يوحي بتغيير النظام قد أضعف مصداقيتها كمفاوض. من وجهة نظر الإيرانيين، لا جدوى من التفاوض مع طرف يبدو أنه يفضل القنابل الخارقة للتحصينات على الاختراقات الدبلوماسية.
بالنسبة إلى "إسرائيل"، لم يُترجم شعورها بالنصر بعد حرب يونيو إلى رغبة في الدبلوماسية. ويبدو أن رئيس وزرائها ومؤسستها الأمنية ملتزمان بمبدأ "جزّ العشب"، وهي استراتيجية عمل عسكري استباقي مستمر لإضعاف قدرات الخصوم، وهذا يتعارض جوهرياً مع الرغبة الأميركية الأخيرة في التوصل إلى "صفقة" نهائية لإنهاء الصراع.
يُشكّل هذا التباين بين الحلفاء عقبةً صعبةً أمام أي وسيط. فضربة إسرائيلية استباقية أخرى قد تُقوّض الدبلوماسية المصرية الهشة في لحظة.
مع أنّ مثلث السلام الشامل بين أميركا و"إسرائيل" وإيران لا يزال بعيد المنال، إلا أنّ ما يُمكن تحقيقه هو دور أقل طموحاً ولكنه أكثر حيوية لمصر كجهة مسؤولة عن خفض التصعيد في المنطقة. لا تستطيع القاهرة تفكيك طموحات إيران النووية أو حل العداء الجذري بين إيران و"إسرائيل"، لكنها تستطيع إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة، والتوسط في اتفاقيات تقنية تبني الثقة، والعمل كقوة إطفاء عند تطاير الشرر، وهو أمرٌ سيحدث لا محالة.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.