"972+": "الذريعة الواهية" التي اعتمدتها "إسرائيل" لتبرير الإبادة الجماعية
من خلال ربط كل عملية قتل بهدف عسكري، بات بوسع الإسرائيليين من كافة الأطياف المشاركة في المذبحة من دون التشكيك في أخلاقية أفعالهم.
-
"972+": "ذريعة الهدف".. المنطق الذي ساعد الإسرائيليين على ارتكاب الإبادة الجماعية
مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر مقالاً يتناول التحليل الأخلاقي والسياسي لسلوك "إسرائيل" في حربها على غزة، من منظور كاتبٍ يهودي إسرائيليّ يعمل في مجال التحقيقات الصحافية، ويرى أنّ ما يجري يشكّل إبادة جماعية فعلية تُنفّذ باسم "الأمن" و"الأهداف العسكرية".
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية"
بعد بضعة أشهر من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، التحقتُ بدورة تمهيدية حول الإبادة الجماعية في الجامعة المفتوحة في "إسرائيل". بدأ المُحاضر الحصة الأولى بإخبارنا، وكنّا نحو 20 طالباً يهودياً إسرائيلياً مجتمعين عبر تطبيق "زووم"، أنه بنهاية الفصل الدراسي سنفهم تماماً ما تعنيه الإبادة الجماعية، وسنكون قادرين على تفسير سبب عدم ارتكاب "إسرائيل" إبادة جماعية في غزة.
باختصار، كانت حجته كالآتي: قد تدمر "إسرائيل" غزة، لكن أفعالها مدفوعة بأهداف عسكرية، لا بنية القضاء على جماعة محددة، كما تنص اتفاقية الإبادة الجماعية. وخلص إلى أنه من دون هذه النية، لا ينطبق مصطلح الإبادة الجماعية.
على مدار العامين الماضيين، نشرتُ الكثير من التحقيقات التي تكشف تفاصيل سياسة إطلاق النار التي تنتهجها "إسرائيل" في غزة، وقد ساهم عدد منها في إثبات الادعاءات القانونية بارتكاب إبادة جماعية. وعندما رفعت جنوب أفريقيا قضيتها ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية في كانون الثاني/يناير 2024، اعتمدت جزئياً على تقريرنا الذي نُشر في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، والذي كشف عن حملة الاغتيالات الجماعية التي شنتها "إسرائيل" باستخدام الذكاء الاصطناعي، والتي استهدفت منازل عائلات المسلحين المزعومين. وعندما توصلت لجنة تابعة للأمم المتحدة إلى استنتاج مماثل الشهر الفائت مفاده أنّ "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية، اعتمدت جزئياً على تحقيق آخر أجريناه أظهر أن أكثر من 80% من الضحايا في غزة كانوا من المدنيين، وفقاً لقاعدة بيانات استخبارية إسرائيلية داخلية.
ومع ذلك، اعتبرت قلّة من عشرات الجنود والضباط الذين تحدثت إليهم خلال إجراء هذه التحقيقات، والذين خدم الكثير منهم طواعية كمخبرين، أنها مشاركة في الإبادة الجماعية. وعندما تحدّث ضباط الاستخبارات والقادة عن قصف منازل العائلات في غزة، رددوا منطق المحاضر الجامعي: "من المؤكد أننا ارتكبنا جرائم، لكننا لم نكن قتلة لأن كل عمل كان له هدف عسكري محدد. فعلى سبيل المثال، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، سمح "الجيش" لجنوده بقتل ما يصل إلى 20 مدنياً من أجل اغتيال شخص مشتبه به من عناصر حماس الأدنى رتبة، أو مئات المدنيين عند استهداف شخصيات أعلى رتبة. وقد وقعت معظم هذه الاغتيالات في منازل مدنية لم تشهد أي نشاط عسكري. لكن، بالنسبة إلى معظم الجنود الذين تحدثتُ إليهم، كان مجرد وجود هدف عسكري مزعوم، حتى في الحالات التي كانت فيها الصورة الاستخبارة غامضة، يبرر عدد القتلى الناتج عن هذا الهجوم.
وفي تحقيق آخر، وصف لي جندي كيف استخدمت كتيبته طائرات مُسيّرة يتم التحكم فيها عن بُعد لإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال، أثناء محاولتهم العودة إلى منازلهم المدمرة في منطقة يحتلها "الجيش" الإسرائيلي، ما أسفر عن مقتل 100 فلسطيني أعزل على مدى 3 أشهر. وأوضح أنّ الهدف لم يكن قتلهم من أجل القتل فحسب، بل من أجل إبقاء الحي فارغاً؛ وبالتالي، أكثر أماناً للجنود المتمركزين هناك.
وروت جندية أخرى مشاركتها في قصف مجمّع سكني كامل، يضم أكثر من 10 مبانٍ متعددة الطوابق، بالإضافة إلى برج سكنيّ شاهق مكتظ بالعائلات. وكانت تعلم مسبقاً أنها وفريقها سيقتلون على الأرجح نحو 300 مدني بفعلتهم هذه. لكنها أوضحت أن العملية استندت إلى معلومات استخبارية تُشير إلى احتمال اختباء قائد رفيع المستوى في حماس في مكان ما تحت أحد هذه المباني. ومن دون معلومات دقيقة، دمروا المنطقة بأكملها أملاً في قتله. كما أقرّت الجندية بأنّ الهجوم كان بمنزلة مجزرة. لكن في رأيها، لم يكن هذا هو القصد؛ بل كان الهدف إصابة القائد، الذي ربما لم يكن موجوداً أصلاً.
لقد لعب هذا الإطار الموجّه نحو المهمة دوراً حاسماً في تمكين الإسرائيليين العاديين من المشاركة في الإبادة الجماعية، ربما أكثر من الطاعة وحدها التي يُفترض عادةً أنها الدافع الأساسي في مثل هذه السياقات. ومن خلال فهم كل فعل من أفعال العنف باعتباره مهمة منفصلة، من استهداف أحد عناصر حماس إلى تأمين محيط ما، يمكن للجنود تجنب مواجهة دورهم في المذبحة الجماعية بحق المدنيين.
وأصبح الحفاظ على هذه العقلية أسهل في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. وتستطيع هذه التقنيات جمع معلومات عن مجموعة سكانية بأكملها بشكل شبه فوري وتحليلها، ورسم خرائط للمباني وسكانها بدقة متناهية. وهكذا، فهم يُنتجون سيلاً لا ينضب من المبررات العسكرية الظاهرية، مُشكّلين بذلك غطاءً شرعياً لسياسة القتل الجماعي. لقد مكّن الذكاء الاصطناعي "إسرائيل" من تحويل ركن أساسي من القانون الدولي، وهو الالتزام بمهاجمة الأهداف العسكرية فحسب، إلى أداة تُشرّع وتُسرّع المذبحة التي كان من المفترض منعها.
دوافع متداخلة
مع دخول وقف إطلاق النار الهش الذي توسطت فيه الولايات المتحدة حيز التنفيذ في غزة، ستتواصل الجهود العالمية لضمان المساءلة والعدالة بكامل قوتها. وستستمر قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، بينما ستسعى "إسرائيل" وداعموها - بما في ذلك الحكومات الغربية - إلى دحض اتهامات الإبادة الجماعية لتجنب العواقب القانونية لمثل هذا الحكم. وفي هذا السياق، سيواصلون الإشارة إلى الأهداف العسكرية المُعلنة وراء كل هجوم محدد، كما يفعل "الجيش" بشكل روتيني رداً على تقاريرنا.
إن ميل مرتكبي الإبادة الجماعية إلى التذرع بالأمن كمبرر للعنف الجماعي موثق بشكل جيّد، ويبرر أعمال الوحشية ضمن إطار أوسع من الدفاع عن النفس. ومهما كانت الذريعة الواهية التي قُدّمت في كل حالة، فإن هجمات "إسرائيل" كانت بلا شك تُنفذ مع علمها التام بأنها ستؤدي إلى تدمير شعب آخر. والنتيجة هي حصيلة وفيات فلسطينية يُعتقد بأنها تجاوزت عتبة الـ100 ألف، وتدمير قطاع غزة بالكامل تقريباً.
ومع ذلك، يُعدّ التركيز وحده على كيفية تراكم كل فعل عنف فردي ليُنتج واقعاً عاماً للإبادة الجماعية إغفالاً للنقطة الأساسية. فبالنسبة إلى الكثير من قادة "إسرائيل"، كان الموت والدمار الشامل الهدف الأساسي. من تجويع مليوني شخص عمداً وإطلاق النار على طالبي المساعدات، إلى تدمير مدن بأكملها بشكل منهجي والعمل بنشاط نحو الطرد الجماعي، شكلت إبادة الفلسطينيين في غزة هدفاً واضحاً في حدّ ذاته.
وبعد أن خرقت "إسرائيل" وقف إطلاق النار السابق في آذار/ مارس، باتت الأهداف العسكرية التي يُزعم أنها كانت موجودة أكثر هشاشة. ولم يبقَ سوى منطق إجرامي محض، نادراً ما كلف "الجيش" نفسه عناء تبريره عسكرياً. كان هذا الدافع واضحاً، ليس فقط في الفعل، بل في القول أيضاً. وكما قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في أيار/ مايو: "نواصل هدم المنازل؛ وليس لديهم مكان يعودون إليه. والنتيجة المنطقية الوحيدة هي رغبة الغزيين في الهجرة خارج القطاع". وذهب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، أهارون حاليفا، أبعد من ذلك قائلاً: "مقابل كل ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ومقابل كل واحد منا سقط في ذلك اليوم، يجب أن يموت 50 فلسطينياً. ولا يهم إن كانوا أطفالاً أم لا. أنا لا أتحدث بدافع الانتقام، بل كرسالة للأجيال القادمة. إنهم بحاجة إلى نكبة بين الحين والآخر ليشعروا بالثمن".
لكن الأهم من ذلك، أن الدوافع الموجهة نحو إنجاز المهمّة والدوافع الإبادية لم تكن متنافية، بل كانت تعزز بعضها البعض. وقد أدى هذا التداخل إلى توسيع قاعدة الراغبين في المشاركة في المذبحة. وقام الجنود الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية بشكل علنيّ، وكان عددهم كبيراً، بتدمير مدينة رفح بالكامل من أجل التطهير العرقي للفلسطينيين، في حين قام أولئك الذين يتمتعون بصورة ذاتية أكثر ليبرالية بتدميرها من أجل إنشاء "منطقة عازلة أمنية". ورأى حاليفا أن قصف منازل العائلات كان بمنزلة عمل انتقامي، في حين قال الجنود الذين كانوا أكثر انزعاجاً من مثل هذه المبررات لأنفسهم إن ذلك كان من أجل ضرب هدف موجود في الداخل.
تُجزّئ العقلية الموجّهة نحو تحقيق الأهداف تدمير شعب ومكان إلى آلاف الأفعال المعزولة، كلٌّ منها مُبرَّرٌ بشروطه الخاصة، ولا يتم الاعتراف بأيّ منها كجزءٍ من حملة إبادة جماعية أوسع. وهذا يسمح لبعض مُنفِّذيها بتجاهل النية الأساسية، حتى مع تعبير قادة مثل نتنياهو وحاليفا عنها علناً.
الإبادة الجماعية كإطار أخلاقي
يتمثل جوهر كل هذه المبررات في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. وقد أخبرني الجنود الذين ذبحوا 300 شخص لقتل عنصر واحد من حماس بأنهم ربما ما كانوا ليفعلوا ذلك لو صودف وجود طفل يهودي واحد في المبنى.
وتجري عملية نزع الصفة الإنسانية في اتجاهين: فهي لا تضخّم الضحية لتتحول إلى تهديد وحشي فحسب، بل تؤدي أيضاً إلى عكس ذلك، تُحوّلها إلى رماد وتُقلّصها حتى تختفي. هكذا يُبرّر جنديّ يُنفّذ مهمة قتل 300 شخص. فلا يُنظر إليهم كـ300 إنسانٍ مُتفرّد، بل مجرد نقاط بيانات في برنامج يحسب "الأضرار الجانبية".
لقد فهم الكثير من اليهود الإسرائيليين تطورات العامين الماضيين من خلال لغة الهولوكوست. وكتب صديق طفولتي، الذي أصبح ضابطاً محترفاً في "الجيش"، والذي لم يعد يتحدث معي، على "فيسبوك" أنه قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كان يحرص على حضور شهادات الناجين من الهولوكوست علناً "ليترك أثراً عميقاً" ويجد بذلك هدفاً في عمله. وبعد هجوم حماس، الذي يراه من عمل النازيين المعاصرين، كتب أنه يستطيع اليوم أن يفهم بعمق آلام الناجين من الهولوكوست.
في المقابل، نظر آخرون في "إسرائيل" وحول العالم، بمن فيهم أنا، إلى المذبحة التي ترتكبها "إسرائيل" في حق المدنيين وأطفال غزة الجائعين والمقابر الجماعية والنزوح القسري الذي لا نهاية له، وفكروا في الأحداث نفسها من منظور معاكس. واللافت أنّ صور المحرقة تُستخدم لتبرير تدمير غزة. وتُظهر هذه المفارقة قوة الإبادة الجماعية باعتبارها لغة أخلاقية سائدة في عصرنا، كما تُظهر حقيقة أن الفلسطينيين غالباً ما يضطرون إلى ترجمة معاناتهم إلى تلك اللغة حتى يُسمع صوتهم كضحايا.
إلا أنّ رؤية العامين الماضيين ليس من خلال منظور الإبادة الجماعية فحسب، ولكن باعتبارهما نكبة ثانية - مشروع محو مستمر يهدف إلى تدمير شعب والمكان الذي يسكنه. قد يقربنا من فهم طبيعة تصرفات "إسرائيل". ففي حين تُفهم الإبادة الجماعية غالباً على أنها عنفٌ بحد ذاته، فإن النكبة تُمثّل عنفاً ذا هدف: إبادة شعب واستبداله.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.