عسكرة البحر الكاريبي: كيف غيّر تفويض ترامب الـCIA قواعد اللعبة؟

قرار واشنطن تفويض عمليات سرية وقاتلة في الكاريبي ضد فنزويلا يحوّل المواجهة من عقوبات ودبلوماسية إلى حرب هجينة تُوظف ذريعة "المخدرات" لتأمين مصالح طاقية وفرض تغيير سياسي، فيما تعيد كاراكاس تعبئة قدراتها الدفاعية وتُصعّد تكلفة أي مغامرة خارجية.

  • قوات أميركية على حاملة طائرات
    قوات أميركية على حاملة طائرات "شترستوك"

منذ اللحظة التي أُعلن فيها  السماح لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بتنفيذ عمليات قاتلة وسرية ضد فنزويلا، تغيّر تعريف الأزمة في البحر الكاريبي. لم نعد أمام "مراقبة بحرية" أو لعبة رسائل، وإنما أمام تفويض هجومي يفتح الباب لضربات داخل العمق بذريعة مكافحة عصابات المخدرات العابرة للحدود. وهذا القرار الذي يأتي بعد قطع قنوات الاتصال الدبلوماسي، ينقل إدارة الملف من الإيقاع البطيء للعقوبات إلى إيقاع المفاجآت العملياتية. ومعه تُستبدل أدوات الضغط الاقتصادي بأدوات حرب هجينة: تسلل، وتخريب، واستهداف قيادات، وبناء رواية تبرر كل ذلك داخل وخارج الولايات المتحدة. والرسالة واضحة: المطلوب فك إرادة بلد يرفض الوصاية واستنزافه بوسائل متدرجة، مع الاحتفاظ بخيار الضربة السريعة كوسيلة لتغيير قواعد اللعبة. وفي خلفية ذلك تصطف مصالح الطاقة والهيمنة البحرية لتأمين مسرح مفتوح بلا قيود.

بالتوازي  تمدّد الوجود العسكري الأميركي في البحر الكاريبي على نطاق يماثل أزمنة الذروة خلال الحرب الباردة، مع تموضع بوارج قتالية وغواصة نووية ووحدات استطلاع جوي وبحري، بالإضافة إلى ما يزيد على عشرة آلاف عسكري، تحت عنوان "مكافحة المخدرات". وأُطلقت صواريخ على قوارب صغيرة خرجت من سواحل قريبة، فسقط قتلى مدنيون بينهم صيادون من دول مجاورة، فيما قُدمت العمليات كإحباط شحنات مخدرات تهدد الأمن القومي الأميركي. لكن استبدال إجراءات الاعتراض القانونية بإعدام ميداني في عرض البحر، ترافق مع صياغة سردية قانونية تصف المشهد بأنه "نزاع مسلح غير دولي" مع كيانات مُصنفة كإرهابية، وبناء مذكرات سرية تمنح تفويضاً واسعاً لاستخدام القوة. بهذه الطريقة يُعاد تعريف المجال البحري كمنطقة استهداف، وتتآكل قواعد قانون البحار، ويُدجَّن الرأي العام الأميركي (والعالمي) ليقبل القتل عن بعد باعتباره أداة سياسة خارجية.

السؤال الآن ليس لماذا تُصعّد واشنطن؟ وإنما أي توازن جديد تريد فرضه؟ لقد استُخدمت كل وصفات الإنهاك: حصار اقتصادي خانق على مدار عقدين، ومصادرات أصول، واعتراف برؤساء موازيين، ودعم محاولات تمرد ومرتزقة، وملفات قضائية وعقوبات فردية. ورغم كل ذلك قاومت الدولة وانكمش الاقتصاد ثم بدأ يتعافى، مستعيداً إنتاجاً نفطياً متزايداً وحركة تصدير متواضعة عبر قنوات حلفاء كالصين. وبالمقابل، انفجرت طفرة نفطية في مياه دولة غويانا المتنازع عليها، تقودها شركات أميركية كبرى وتستند إلى حماية أمنية متنامية. هنا يلتقي النفط بدبلوماسية البوارج: الضغط البحري يراد له أن يؤمن مسرح امتيازات الطاقة، وأن يربط مصير كاراكاس بمصالح الشركات، وأن يعيد ضبط السوق الإقليمية بإقصاء لاعب لا يخضع لإملاءات البيت الأبيض. ومن هذه الزاوية تُربط رواية "المخدرات" برواية "الإرهاب" كجسر دعائي بين الأمن والطاقة، بحيث يصبح النيل من فنزويلا شرطاً ضرورياً لترتيب حوض البحر الكاريبي وفق منطق الشركات والهيمنة الأميركية في الكاريبي.

ضمن هذا المخطط يبرز خيار "العمليات الجراحية" داخل فنزويلا: ضربات قصيرة وعالية الأثر تستهدف العقد الحيوية للدولة من كهرباء ومصافي وموانئ واتصالات، وتحاول شل القدرة على الحكم لبضعة أسابيع ريثما تُبنى "إدارة انتقالية" موالية لواشنطن. وبالطبع، الأدوات متوقعة: طائرات مُسيّرة، وفرق تخريب صغيرة معظمها من المرتزقة، وعمليات نفسية وإعلامية مكثفة، وتوظيف ملف "المخدرات" و"الإرهاب" و"العصابات العابرة للحدود" لتبرير الاغتيال أو الخطف. إن التوسع في استخدام أسماء عصابات مثل "ترين دي أراغوا" و"كارتل دي لوس سوليس" يعمل كرافعة قانونية وإعلامية، وليس كمعلومة سبقها تحقيق صارم. والفكرة الجوهرية هي إقناع الداخل والخارج بأن إسقاط حكومة الرئيس نيكولاس مادورو ممكن بواسطة "ضربة رأس نظيفة"، وأن التكلفة الاجتماعية ستكون "صفراً" تقريباً. بيد أن تجارب السنوات الماضية تقول العكس تماماً: الضربات الجزئية والمحدودة تُنتج تماسكاً أكبر في الداخل ومجتمعات محلية مُعبّئة للقتال بما يضمن تحويل أي "عملية" إلى استنزاف طويل.

في هذا المناخ جاءت جائزة نوبل لماريا كورينا ماتشادو كإشارة سياسية مُبرمجة أكثر منها تكريماً رمزياً. التوقيت متزامن مع عسكرة الكاريبي، ومع خطاب يعد بـإقامة "خصخصة شاملة" وفتح الأصول الاستراتيجية بسرعة خاطفة تحت عنوان "فرصة استثمار تاريخية". هكذا تُستعمل المكانة الأخلاقية – المزعومة – للجائزة كختم قبول مسبق لشخصية تُقدَّم كوجه المرحلة الانتقالية بعد إقصاء مادورو، وكأداة ضغط على بيروقراطية الدولة والجيش لإيهامهم بأن العالم اصطف خلف بديل جاهز. بيد أن الشرعية الاجتماعية لا تُمنح من الخارج، ولا تنشأ من وعود الصدمة الاقتصادية، وإنما تُبنى داخل مجتمع يقاوم الحصار يومياً. ومن دون قاعدة شعبية صلبة، يتحول هذا "الاستثمار" الرمزي إلى ورقة دعائية مؤقتة وهزيلة وعاجزة عن دفع مؤسسات بلدٍ معبّأ مدنياً وعسكرياً لمقاومة أي مغامرة عسكرية محتملة. ولذلك تبدو الجائزة جزءاً من معركة روايات لا أكثر ولا أقل.

وداخل فنزويلا تتبلور معادلة مختلفة جذرياً. فقد أُعيد تعريف الدفاع كوظيفة مجتمعية، وليس تكليفاً عسكرياً صرفاً. انتشرت مناطق دفاع متكاملة تربط الساحل بالحدود، وتقاطعت وحدات الجيش مع الميليشيا الوطنية والشبكات المدنية التي تحمي الكهرباء والمياه والطرق والموانئ. المناورات الدورية والتمارين على الإخلاء والإسناد والإمداد تُحوّل الكلمات إلى قدرة فعلية على امتصاص الضربة الأولى وضمان الردّ الحازم عليها. وهذا يعني أن "الضربة الخاطفة" قد تتحول تلقائياً إلى حرب طويلة، وأن تكلفة أي تدخل سترتفع مع كل يوم لا تُحسم فيه المعركة. ولا ينفي ذلك وجود ثغرات، لكنه يثبت أن مجتمعاً متدرباً وتاريخاً من مواجهة الحصار والانقلابات يصنعان ردعاً فعلياً، وأن هاجس أي مخطط خارجي يجب أن يكون "ماذا بعد اليوم التالي؟" وليس "كيف نبدأ؟".

والإقليم بدوره لا يمنح المغامرة غطاءً سهلاً. بيانات من عواصم كبرى في أميركا اللاتينية ترفض عسكرة الكاريبي، وتحذر من كسر مبدأ "منطقة السلام" الذي تبنّته القارة قبل أعوام. وفي مجلس الأمن، وفي منابر إقليمية، تُطرح مسألة الشرعية القانونية للهجمات الأميركية، ويُذكّر الجميع بأن وجود غواصة نووية وقاذفات بعيدة قرب سواحل فنزويلا ليس إجراءً أمنياً لمواجهة عصابات مخدرات، وإنما تعديل جيوسياسي كامل. إن حادثة مقتل صيادين من دولة ترينيداد وتوباغو خلال إحدى الضربات البحرية أظهرت أن "الحرب الذكية" تصيب الأبرياء أولاً وتوقظ ذاكرة استعمارية ثقيلة. وكل ذلك يعمّق تكلفة الاستمرار ويقوّي حجج الدعوة لوقف التصعيد، ويمنح كاراكاس سنداً سياسياً وأخلاقياً يعوض اختلال ميزان القوة المادي. وإلى جانب ذلك، تتصدر البرازيل والمكسيك وكولومبيا دعوات التهدئة والتحقيق في الضربات، وتشدد على أن الإقليم لا يحتاج إلى مغامرين وإنما إلى آليات حوار وسيادة متبادلة.

وعلى مستوى القانون والسرد، يجري انقلاب صامت لكنه عميق. الميثاق الأممي يحظر التهديد أو استخدام القوة ضد سلامة الدول، وقانون البحار يرسم مساراً واضحاً للاعتراض والتفتيش والاحتجاز القضائي. ومع ذلك، تُصاغ آراء سرية تمنح السلطة التنفيذية في واشنطن حقاً أحادياً في تحديد "تهديد وشيك"، وتُبنى قوائم أهداف لا يطّلع عليها الرأي العام ولا القضاء. وتصطدم محاولات تقييد هذا التفويض داخل الكونغرس بحسابات حزبية، فيما تتراجع المحاسبة لصالح "الأمن القومي" المطاط. وبهذا تنتقل "الحرب على المخدرات" من نطاق الشرطة والقضاء إلى نموذج اغتيالات عابرة للحدود، وتصبح سابقة قبول قتل مبحرين في عرض البحر مدخلاً لتعميم العنف كأداة سياسة خارجية، في تآكل خطير لمنظومة الشرعية الدولية. والنتيجة المتوقعة – نظراً لسقوط هذه الشرعية الدولة في غزة – هي تطبيع الاستثناء وتحويله إلى قاعدة بما يفتح شهية تمدد جديد بلا سقف.

أما ذريعة "المخدرات" فتعجز عن تفسير هذا الحجم من العسكرة. والمعروف من تقارير أممية وأميركية أن القسم الأكبر من المخدرات المتجهة شمالاً لا يخرج من فنزويلا، وأن طرق التهريب الرئيسية تسلك المحيط الهادئ وممرات برية عبر بلدان أخرى. ورغم ذلك، تُعلّق لافتة "دولة المخدرات" على بلد لا يزرع الكوكا ولا يدير مختبراتها، ليُعاقَب مجتمع بكامله بعقوبات وتشويه إعلامي وضربات استباقية. إن الوظيفة الحقيقية لهذه الرواية هي تبرير السيطرة على حوض الطاقة في الكاريبي وإعادة رسم النفوذ البحري، إلى جانب توظيف ملف الهجرة لتصنيع ذعر انتخابي داخلي في الولايات المتحدة. وهنا تتجلى السياسة القديمة بلباس جديد: تجويع ونزع شرعية ثم إشهار القوة لتطويع دولة متمسكة بسيادتها وثرواتها. وبذلك تُنقل المشكلة الصحية والاجتماعية إلى مسرح عسكري، وتُترك البنوك التي تغسل الأموال والأسواق التي تستهلك بلا رادع خارج دائرة الاتهام والمساءلة الحقيقية.

إذن، أسابيع من التصعيد التدريجي الحذر في البحر الكاريبي من دون أن يتبيّن أفق للمغامرة العسكرية الأميركية، فما الذي يلوح في الأفق؟ الأرجح أننا أمام أربعة سيناريوهات محتملة:

1- استمرار الضربات البحرية بالوتيرة ذاتها مع تشديد الضغوط النفسية والحصار الاقتصادي لإرهاق كاراكاس؛ هذا السيناريو لن يحقق جديداً يذكر داخل فنزويلا ولا حتى في ميدان البحر الكاريبي.

2- الانتقال خلال الأيام والأسابيع المقبلة إلى "عمليات جراحية" داخلية تطاول البنية الحيوية ويواكبها في الوقت ذاته نشاط تخريبي للمرتزقة وقوى اليمين في الداخل، وقد يشمل ذلك أيضاً محاولة اغتيال (أو خطف) مادورو وقيادات أخرى؛ وهذا السيناريو الأرجح، لكنه يحمل في باطنه عوامل الفشل في تحقيق الأهداف نظراً لحالة التماسك الاجتماعي الحالية في الداخل والتعبئة المدنية-العسكرية النشطة والخبرات السابقة للشعب وللحكومة وللجيش في التعامل مع أزمات الداخل وضغوطات الخارج.

3- الغزو العسكري المباشر على الأرض؛ وهذا السيناريو الأضعف نظراً إلى أنه لا يضمن – بطبيعة الحال – تحقيق الأهداف التي ترجوها واشنطن لأن الميليشيا الوطنية (فصائل شبه عسكرية غير نظامية) وحدها تضم ما يزيد على 8 ملايين متطوع تدرّب معظمهم بالفعل على ما يمكن لأي مقاومة شعبية عسكرية أن تقوم به في وجه غازٍ محتمل. وليس من المبالغة القول إن هذا السيناريو – إذا تجرّأت واشنطن على الشروع فيه بالفعل – سوف يخلِّف خسائر دامية في صفوف الأميركيين لن تجوز آنذاك مقارنتها بما عانوه في الحرب على فييتنام، إذ ستبدو "الحرب على فييتنام" آنذاك كما لو أنها كانت مجرد "نزهة" للأميركيين.

4- تراجع وانكفاء اضطراري تحت ضغوط قانونية في الداخل الأميركي وضغوط أخرى إقليمية ودبلوماسية على الصعيد الدولي؛ وهذا سيناريو ضعيف لأنه يعتمد على رؤية الرأي العام الأميركي للتناقض الحاصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في الداخل الأميركي بخصوص عسكرة الكاريبي، أو يعتمد على القانون الدولي الذي سقط بالفعل أمام أعين الملايين في غزة ما قاد بالعديدين إلى التشكيك في شرعية المؤسسات الدولة أصلاً. لن يرى الرأي العام الأميركي ذلك لأن التجاذبات والمصالح الحزبية تُعميه، بينما المؤسسات الدولية غير ديمقراطية أصلاً ولن تستطيع فرض أي شيء على الولايات المتحدة، على الأقل خلال العقد الجاري.

إن المشهد يبقى حتى إشعارٍ آخر مفتوحاً على تدرّجٍ طويل، حيث يظلّ السيناريو الثاني الأكثر ترجيحاً من دون أن يُستبعد ارتداده إلى الأوّل إذا لم يُحدث اختراقاً سريعاً، فيما يبقى الثالث مقامرةً مكلفة جداً قد تعجّل بالانزلاق نحو الرابع على هيئة تراجعٍ مُغلّفٍ بعباراتٍ قانونية. إن ما سيحسم الأمر هو ميزان التكلفة والعائد، ومقدار الصلابة الاجتماعية والمؤسساتية في فنزويلا، وقدرة محور واشنطن على تعظيم أثر الحصار مقابل قدرة كاراكاس على تحويل الضغط إلى تماسك اجتماعي. ولذلك تبدو العقلانية السياسية رهينة جمعٍ متزامن بين يقظةٍ داخليةٍ وتحصينٍ اقتصادي-خَدَميّ ودبلوماسيةٍ نشطة تُصعّب قرار المغامرة وتُثقله سياسياً على قاعدةٍ بسيطة: ما يُحبط المغامرة ليس الخطاب، وإنما معادلة ردع تضمن ألّا تمر المغامرة من دون تكلفةٍ باهظة.

اخترنا لك