"فورين بوليسي": لماذا لن يتخلى الجنوب العالمي عن الصين؟
تضغط الولايات المتحدة على الدول النامية لاتخاذ خيار ثنائي من دون أن تقدم لنفسها خياراً أفضل.
-
الرئيس الصيني شي جين بينغ يحضر حوار الأسواق الناشئة والدول النامية على هامش قمة البريكس 2017 في شيامن، الصين.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول التنافس الأميركي – الصيني في دول الجنوب العالمي، وكيف تحاول كل قوة عظمى صياغة نفوذها هناك، مع إبراز استجابة دول الجنوب لبكين التي تقدم نفسها كخيار عملي أقل إلزاماً وأكثر توافقاً مع مصالحها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
يُشكل التنافس بين القوى العظمى الإطار الشامل للسياسة الدولية اليوم. ونظراً لقلق الغرب بقيادة الولايات المتحدة، من تنامي نفوذ الصين في معظم أنحاء العالم، فإنه ينظر إلى بكين كمنافسٍ منهجي واستراتيجي يجب التصدي له.
وتشكّل نوايا دحر الهيمنة الصينية أو مواجهتها الآن استراتيجيات الغرب تجاه دول الجنوب العالمي. وقد أصبح إجبار الدول على الاختيار استراتيجيةً شائعة، لكن دول الجنوب العالمي لن تتخلى عن الصين ولن تتخذ خياراتٍ ثنائية.
في انعكاسٍ صارخٍ لهذا الأمر مؤخراً، حذّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أنّ أيّ دولة "تتبنى سياسات البريكس المعادية لأميركا" ستواجه رسوماً جمركية إضافية. وصرح سيلسو أموريم، كبير مستشاري الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بأنّ هذه التهديدات "تعزز علاقاتنا مع البريكس، لأننا نريد علاقات متنوعة لا تعتمد على دولة واحدة".
في ظل غياب الرؤى المتنافسة للسياسة العالمية والتنظيم الاقتصادي التي ميزت الحرب الباردة، من المرجح أن تأتي سياسة الترهيب الأميركية لكبح نفوذ الصين في العالم غير الغربي بنتائج عكسية. على العكس من ذلك، فإن تقلب ترامب وازدراءه للقواعد والأعراف، إلى جانب تراجع القوة الناعمة للغرب، يعززان نفوذ الصين ويدعمان جهودها لإعادة تعريف الجنوب العالمي، الذي تُعدّ جزءاً لا يتجزأ منه، ككتلة غير غربية أو حتى معادية للغرب.
تميل دول الجنوب العالمي إلى قبول الأسعار، وفي عالم قائم على المعاملات، تُقدم الصين أكثر من أي قوة عظمى أخرى. وينطبق هذا بشكل خاص على دول جنوب شرق آسيا، حيث لا تزال البنية التحتية قيد التطوير. وبصفتها قوة عظمى في مجال البنية التحتية، تُلبي الصين مباشرةً إحدى الحاجات الرئيسية لدول الجنوب العالمي. فقد أنفقت أكثر من 1.3 تريليون دولار على مشاريع مبادرة الحزام والطريق (BRI) في دول الجنوب العالمي خلال العقد الماضي، وهو ما يتجاوز بكثير استثمارات نظرائها في مشاريع مثل البوابة العالمية لأوروبا، والإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (IPEF) للولايات المتحدة، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي لروسيا.
هذا لا يعني أنّ جميع مشاريع الصين تسير بسلاسة. ففي سريلانكا وباكستان وميانمار وماليزيا وكينيا وزامبيا، برزت قضايا مختلفة، منها ضائقة الديون والوقوع في فخ تضخم التكاليف، والاعتماد الكبير على العمال الصينيين، ومشاكل الحوكمة، والمخاوف الأمنية، والمعارضة الداخلية. مع ذلك، أظهرت الصين مرونة في تكييف برامجها مع ظروف الدول المضيفة. وتسعى الصين الآن إلى مواءمة مبادرة الحزام والطريق مع أجندة الاتحاد الأفريقي 2063، وهي إطار استراتيجي لتحويل القارة على مدى الخمسين عاماً المقبلة.
ترى الصين أنّ تراجع إدارة ترامب عن الالتزامات العالمية وتوقعات القوة الناعمة فرصة للاستفادة منها. وبينما تم إغلاق مكاتب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) حول العالم هذا العام، بلغت العقود والاستثمارات الصينية المتعلقة بمبادرة الحزام والطريق 125 مليار دولار. وعلى الرغم من أنّ استثمارات الصين في مبادرة الحزام والطريق أصبحت أصغر وأكثر استهدافاً، فقد شهد النصف الأول من عام 2025 أعلى مشاركة في مبادرة الحزام والطريق على الإطلاق لأي فترة ستة أشهر، حيث شهدت أفريقيا وآسيا الوسطى أكبر عدد من الاستثمارات. كما أنّ الولايات المتحدة ليست وحدها على هذه الجبهة؛ فالمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا خفّضت أيضاً جميعها ميزانيات مساعداتها لتحويل الموارد إلى الإنفاق الدفاعي، ما يعطي الأولوية لقوتها الصلبة على قوتها الناعمة.
الصين نفسها تمتلك قوة ناعمة محدودة. قد يهتم الناس بمنتجاتها، لكنهم لا يهتمون بنفس القدر بأسلوب الحياة الصيني أو منتجاتها الثقافية. مع ذلك، ينبع أحد أهم مصادر القوة الناعمة للصين اليوم من فقدان الولايات المتحدة لاستثنائيتها وجاذبيتها.
وليس من المستغرب إذاً أن تكشف استطلاعات الرأي المختلفة التي أجراها مجتمع السياسة الخارجية في إندونيسيا ومعهد "ISEAS-Yusof Ishak" في سنغافورة أنّ المزيد من مواطني جنوب شرق آسيا اليوم يربطون مستقبل اقتصاد منطقتهم بالصين أكثر من ربطهم بالولايات المتحدة أو أوروبا.
تتجلى صورة مماثلة في المجال الدبلوماسي. فبينما يواصل ترامب تطبيق أجندته "أميركا أولاً" ويهاجم المؤسسات والاتفاقيات متعددة الأطراف، يجد الجنوب العالمي أنّ خطاب الصين عن "المستقبل المشترك" و"الاحترام المتبادل" أكثر جاذبية. كما أنّ جهود الصين الطويلة الأمد لتقديم نفسها كشريك موثوق قد أتت بثمارها، وأنشأت منتديات للتعاون مع جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأفريقيا والشرق الأوسط.
مستغلة التدهور الأخلاقي والمادي النسبي للولايات المتحدة والغرب، تعيد الصين تعريف الهوية الجيوسياسية للجنوب العالمي على أنها غير غربية وتضع نفسها كجزء لا يتجزأ منها. في مؤتمر صحافي عُقد في 7 آذار/مارس، صرّح وزير الخارجية الصيني وانغ يي أنّ "الصين بطبيعة الحال عضو في الجنوب العالمي، لأننا حاربنا الاستعمار والهيمنة معاً في التاريخ، ونحن ملتزمون بالهدف المشترك المتمثل في التنمية والإنعاش". وبالمثل، في الوقت الذي يتسبب فيه ترامب في خوف وقلق واسعي النطاق، من خلال حروبه التجارية وفرض الرسوم الجمركية على دولة تلو الأخرى، أعلنت الصين أنها ألغت جميع الرسوم الجمركية على 53 دولة أفريقية تقيم معها علاقات دبلوماسية. عنوان الإعلان الذي نُشر في موقع وزارة الخارجية الصينية هو "إعلان تشانغشا الصيني الأفريقي بشأن دعم التضامن والتعاون بين دول الجنوب العالمي".
تهدف هذه الرواية إلى تأطير الجنوب العالمي من منظور جيوسياسي أكثر، بدلاً من التركيز الاقتصادي الذي كان سائداً خلال الحرب الباردة. كما أنها تُسوّي الهوية الجيوسياسية للجنوب العالمي بكونها غير غربية ومعادية للهيمنة، ما يعني ضمناً معاداة الغرب.
ينظر الكثيرون في دول الجنوب العالمي إلى الصين كدولة نامية تُضاهيها في الأهمية. وبينما ترى الولايات المتحدة في صعود الصين تهديداً، يستلهم العديد من الدول النامية من نجاحها ويسعى إلى محاكاته. وقد نصح الرئيس الإندونيسي السابق جوكو ويدودو حكومته ذات مرة بالتعلم من استراتيجية التنمية الصينية. وأظهر استطلاع رأي أجراه مركز "بيو" للأبحاث عام 2024 وشمل أشخاصاً في 35 دولة انقساماً في الآراء حول تأثير الصين. فقد رأى المشاركون في الدول ذات الدخل المرتفع التأثير الاقتصادي للصين على بلدانهم نظرة أكثر سلبية، وكان الأميركيون الأكثر سلبية بنسبة 76%. في المقابل، رأى المشاركون في الدول ذات الدخل المتوسط التأثير الاقتصادي للصين على بلدانهم نظرة أكثر إيجابية، مثل حوالى ثلثي الماليزيين والنيجيريين الذين يحملون نظرة إيجابية.
ومع ذلك، ثمة حاجة إلى توضيح دقيق هنا. فخطاب الصين واستراتيجيتها المتمثلة في تصوير الجنوب العالمي على أنه غير غربي، واعتبار نفسها جزءاً لا يتجزأ منه، لا يعنيان توافق مصالحهما. ففي مناسبات عديدة، كانت الصين والجنوب العالمي على طرفي نقيض.
في الوقت نفسه، تُعزز إمكانات الصين كمنافسٍ للولايات المتحدة التعددية القطبية، التي يراها العديد من القوى المتوسطة والجهات الفاعلة في الجنوب العالمي شرطاً منهجياً ضرورياً لفاعليتها السياسية العالمية. يسعى العديد من دول الجنوب العالمي، حتى تلك التي لديها اتفاقيات عسكرية مع الغرب مثل الهند، إلى تحقيق استقلاله الاستراتيجي من خلال التعددية أو التحوط، معتبرةً عالماً متعدد الأقطاب وسيلةً لتعزيز استقلالها.
تشعر دول الجنوب العالمي بالقلق أيضاً من أنّ الخيارات الاستراتيجية الواضحة قد تُورّطها في سياسات الكتل، ما يُعرّضها لمزيد من التشرذم الإقليمي. ويعود هذا القلق جزئياً إلى الحرب الباردة، عندما أدّت الكتل ثنائية القطب إلى زيادة الاستقطاب والانقسام الإقليمي. لنأخذ منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا عام 1954 وحلف بغداد عام 1955 في الشرق الأوسط (الذي أصبح لاحقاً منظمة المعاهدة المركزية بعد انسحاب العراق عام 1959). ومثل حلف الناتو، سعت هذه الكتل إلى احتواء النفوذ السوفياتي والشيوعية، ما أسهم في التشرذم الإقليمي. ومع ذلك، رفضت معظم دول المنطقة، حتى في ذلك الوقت، منطق الحرب الباردة ثنائي القطب ورفضت الانضمام، ما ترك هذه المنظمات بمشاركة محلية محدودة.
انسجاماً مع موقفها الراسخ بعدم الانحياز لأي طرف، ضمت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) كلاً من الولايات المتحدة والصين في شراكة استراتيجية شاملة. كما تعاونت مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومنتدى التعاون الاقتصادي الدولي (IPEF) الأميركي.
بينما يعاني الشرق الأوسط حالياً من استقطاب إقليمي داخلي وتنافس، كالصراع الإسرائيلي الإيراني والتنافس بين إيران ودول الخليج، فإنّ معظم الأطراف الإقليمية الفاعلة لا ترغب في إضافة بُعد عالمي إلى توتراتها الإقليمية القائمة. لا تزال الولايات المتحدة الطرف الأمني الإقليمي الأبرز، لكن الصين تُعدّ الآن الشريك التجاري الأكبر، وخاصةً لدول الخليج. ولا ترى دول المنطقة في علاقاتها مع الولايات المتحدة عائقاً أمام تعميق علاقاتها مع الصين. فالولايات المتحدة توفر مظلة أمنية لمنطقة الخليج، لكن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لديهما أيضاً أطر عمل للتعاون الاستراتيجي الشامل مع الصين.
في قمة مجموعة العشرين لعام 2023 في نيودلهي، أعلنت الولايات المتحدة عن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو مشروع ربط إقليمي رئيسي يهدف إلى منافسة مبادرة الحزام والطريق والحد من نفوذ الصين الإقليمي. ومع ذلك، لا ترى دول المنطقة أي تناقض في المشاركة في كليهما، إذ ترى أنّ المشاركة في مشاريع متعددة تقلل الاعتماد على دولة واحدة وتزيد من المرونة.
تُقدّم الصين بديلاً عن الرؤية الليبرالية الغربية لمسألة الشرعية السياسية. فبدلاً من الديمقراطية والمشاركة السياسية، تُشجّع الصين التنمية والتقدم الاقتصادي كطريقين رئيسيين للشرعية السياسية.
ركزت الصين على جعل نفسها خياراً موثوقاً وجذاباً لدول الجنوب العالمي من دون إجبارها على الاختيار بينها وبين الولايات المتحدة. في المقابل، تضغط الولايات المتحدة على هذه الدول لاتخاذ خيار من دون أن تستثمر بصدق في جعل نفسها خياراً أفضل. بالنسبة لدول الجنوب العالمي، يُعدّ خطاب الصين أكثر جاذبية، إذ تعتقد أنّ مصالحها تتحقق بشكل أفضل من خلال نظام دولي يتيح خيارات متعددة بدلاً من نظام يُجبرها على اختيار جانب دون الآخر.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.