"فورين أفيرز": انهيار أميركا القادم

هل يُشعل إدمان واشنطن على الديون شرارة الأزمة العالمية المقبلة؟

  • "فورين أفيرز": انهيار أميركا القادم

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول أزمة الدين العام الأميركي وتكاليفها. ويركز النص على أنّ استمرار الدين الهائل والعجز المالي يهدد النمو الاقتصادي الأميركي واستقرار الدولار، وقد يضعف الدور العالمي للولايات المتحدة، مع احتمال تأثيرات واسعة على الأسواق العالمية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

صعود الدين الأميركي وتكاليف الفائدة المتزايدة

على مدار ربع القرن الماضي، تمكنت الولايات المتحدة من الاقتراض بشكل كبير لمواجهة الحروب والأزمات الاقتصادية والمالية والصحية، من دون أن يظهر الدائنون الداخليون أو الخارجيون أي قلق تجاه ارتفاع الدين العام، الذي يقترب الآن من 100% من الناتج القومي. بعد الأزمة المالية 2008-2009، ظلت أسعار الفائدة على ديون الخزانة منخفضة جداً، ما جعل الاقتراض يبدو سهلاً ومغرياً. بفضل مكانة الدولار كأصل آمن، ظل المستثمرون العالميون يقبلون شراء الديون الأميركية حتى في أوقات الأزمات، من دون الحاجة إلى توفير احتياطيات لمواجهة الأزمات المستقبلية.

في السنوات الأخيرة، تزايدت المخاطر المالية على الولايات المتحدة مع ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل على سندات الخزانة الأميركية، ما يزيد تكلفة خدمة الدين الضخم البالغ حوالى 37 تريليون دولار. ارتفعت مدفوعات الفائدة لتتجاوز ميزانية الدفاع، وخفضت وكالات التصنيف الائتماني تقييم الدين الأميركي، وسط شكوك متنامية بين المستثمرين الأجانب بشأن السياسة المالية الأميركية.

ولا يوجد حل سحري، فمساعي الإدارة لتحميل مجلس الاحتياطي الفيدرالي مسؤولية ارتفاع الفائدة مضللة، لأن أسعار الفائدة الطويلة تحددها الأسواق العالمية وفق توقعات التضخم. أي تقويض لاستقلالية البنك المركزي سيرفع تكلفة الاقتراض بدلاً من خفضها.

كما أدت المخاوف من سلامة الدين الأميركي إلى تراجع الثقة بالدولار، ما قد يقلل الطلب الأجنبي على الديون الأميركية على المدى القريب، ويهدد حصته السوقية عالمياً على المدى المتوسط والطويل، وبالتالي يزيد الضغط على أسعار الفائدة ويعقد إدارة الدين العام.

إدارة ترامب ألمحت إلى إجراءات صارمة للتعامل مع الديون الأميركية، بما في ذلك إمكانية التخلف الانتقائي عن سداد بعض الديون الخارجية، ما أثار قلق المستثمرين العالميين. حتى السياسات المقترحة مثل فرض ضرائب على مستثمرين أجانب، وإن لم تُطبق، تؤكد وجود مخاطر على ثقة الأسواق. مع ارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع الدين العام، وعدم وجود رغبة سياسية في كبح الاقتراض، يزداد احتمال أزمة ديون أو تآكل الثقة بالدولار، ما قد يضعف مكانة الولايات المتحدة عالمياً على المدى الطويل.

سياسات الإنفاق والعجز: من ريغان إلى ترامب

السياسات الاقتصادية لإدارة ترامب تسرع المشكلة لكنها ليست السبب الأساسي؛ جذور أزمة الديون تعود إلى سياسات الإنفاق بالعجز منذ عهد ريغان، التي واصلها الرئيسان جورج بوش و بايدن، حيث سجلت الميزانية الأميركية عجزاً قياسياً في زمن السلم، ما يعكس استمرار اعتماد الحكومة على الاقتراض لتغطية النفقات الكبيرة.

خلال حملته الرئاسية 2024، انتقد ترامب الإنفاق الكبير لإدارة بايدن، لكنه في حال فوزه سيواصل عجزاً مماثلاً (6–7% من الناتج المحلي الإجمالي)، مع توقعات بارتفاع الدين الأميركي إلى 172–190% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2054. فريق ترامب يعتقد أن هذه التوقعات متشائمة، مستندين إلى افتراض نمو اقتصادي أعلى وأسعار فائدة أقل، ما يقلل تكلفة خدمة الدين ويجعل التمويل أسهل.

تعتمد توقعات النمو على التقدم المتوقع في الذكاء الاصطناعي، الذي قد يزيد الإنتاجية بشكل هائل خلال عشر سنوات. لكن على المدى المتوسط، قد تحد العقبات مثل استهلاك الطاقة، اللوائح، المسؤوليات القانونية، وتسريح العمال، إضافة إلى سياسات الشعبويين، من تحقيق الفوائد الاقتصادية الكاملة للذكاء الاصطناعي، ما قد يبطئ النمو المتوقع ويؤثر على قدرة إدارة ترامب على تمويل الإنفاق الكبير.

من المتوقع أن تواجه الولايات المتحدة صدمة اقتصادية كبيرة في السنوات الخمس إلى السبع المقبلة، مثل حرب إلكترونية، صراع عسكري، كارثة مناخية، أزمة مالية أو جائحة، ما سيضيف ديناً جديداً كبيراً للناتج المحلي. مكتب الميزانية بالكونغرس يتوقع أن يكون متوسط سعر الفائدة على الدين 3.6% حتى 2055، بينما ترى إدارة ترامب أن أسعار الفائدة قد تعود إلى مستويات منخفضة جداً كما في ولايته الأولى، وهو ما يقلل تكلفة خدمة الدين.

ومع ذلك، مع اقتراب سعر الفائدة على سندات الخزانة طويلة الأجل من 5%، تظل مخاطر استمرار ارتفاع الدين كبيرة، خاصة في ظل الأزمة السياسية التي تواجه الاقتصاد الأميركي، إذ لا تشير مؤشرات السوق الحالية إلى انخفاض حاد في أسعار الفائدة طويلة الأجل.

فشل واشنطن في إدارة ديونها المتزايدة نابع جزئياً من اعتماد نظريات اقتصادية مبالغ فيها على مدار العقدين الماضيين، تفترض أن أسعار الفائدة المنخفضة طويلة الأجل تسمح باستخدام العجز المالي من دون مخاطر كبيرة. تاريخياً، خفضت الدول الكبرى ديونها بعد الحروب أو أزمات كبرى لتكون جاهزة للأزمات المستقبلية، لكن بعد الأزمة المالية العالمية، اعتقد بعض الاقتصاديين مثل سمرز وكروغمان وبلانشارد أن الركود المزمن وانخفاض أسعار الفائدة يتيح للحكومات تمويل الإنفاق الاجتماعي أو التحفيزي بسهولة.

السياسات التقدمية استخدمت العجز لتمويل استثمارات اجتماعية ومناخية، بينما الجمهوريون اعتبروا العجز مقبولاً إذا ساعد على خفض الضرائب وزيادة النمو، مع افتراض أن أسعار الفائدة المنخفضة ستظل مستمرة. ومع تسييس النقاش حول الديون، تم تجاهل الاقتصاديين المتشككين في هذه العقيدة، رغم أن التاريخ يظهر أن أسعار الفائدة العالية كانت احتمالاً واضحاً، خاصة بعد أزمة مالية كبرى مثل أزمة 2008–2009، حيث كانت الانخفاضات الحادة في أسعار الفائدة نتيجة الأزمة نفسها وليست نتيجة اتجاهات طويلة الأجل.

رغم استمرار بعض العوامل المخفّضة لأسعار الفائدة مثل شيخوخة السكان، تشير عدة مؤشرات إلى أن أسعار الفائدة طويلة الأجل سترتفع مستقبلاً. من أبرز الضغوط: زيادة الدين الحكومي عالمياً، صعود الأحزاب الشعبوية الداعية للإنفاق المحلي، الطلب الكبير على الاستثمار بسبب الذكاء الاصطناعي، الحروب التجارية وإعادة التصنيع، والتكاليف المتزايدة للتكيف مع تغير المناخ. مع ارتفاع الديون الأميركية وأسعار الفائدة والاضطرابات السياسية، تزداد مخاطر حدوث صدمة اقتصادية جديدة تؤدي إلى أزمة أوسع نطاقاً.

أزمة ديون الولايات المتحدة، بقيمة 37 تريليون دولار، قد تتفاقم إذا انهارت ثقة المستثمرين في سندات الخزانة الأميركية، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة بشكل مفاجئ أو تدريجي. هذا بدوره يخفض أسعار الأسهم والعقارات ويعقد الاستثمار ويزيد تكلفة خدمة الدين، ما قد يدخل الاقتصاد في دوامة ديون مستمرة.

خيارات مواجهة أزمة الديون وأثرها على الاقتصاد العالمي

لتجنب أزمة شاملة، قد تلجأ الحكومة إلى خيارات غير تقليدية مثل التخلف الجزئي عن السداد عبر التضخم، أو حتى التخلف القانوني عن السداد كما حدث عام 1933. استقلالية الاحتياطي الفيدرالي تشكل عائقاً، لكن يمكن للرئيس التأثير على السياسة النقدية عبر تعيين قيادات تدعم خفض الفائدة، رغم وجود حدود زمنية وقانونية لهذا التأثير، ما يجعل إدارة أزمة الديون تحدياً سياسياً واقتصادياً كبيراً.

لمواجهة ارتفاع الديون، يمكن للرئيس بالتعاون مع الكونغرس استخدام أدوات غير تقليدية، منها خفض أسعار الفائدة بشكل حاد في حالات الطوارئ، أو التضخم لخفض قيمة الديون، أو القمع المالي عبر توجيه المدخرات نحو الدين الحكومي والتحكم بأسعار الفائدة. هذه الاستراتيجيات استخدمت تاريخياً في اليابان وأوروبا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها تحمل آثاراً سلبية على النمو والعدالة الاجتماعية، كما أن القمع المالي قد يواجه صعوبة مع المستثمرين الأجانب.

إضافة إلى ذلك، تظهر خيارات جديدة مثل العملات الرقمية المستقرة، التي يمكن أن توجه السيولة نحو ديون الخزانة، لكنها تحمل مخاطر غير محسوبة فيما يتعلق بالاستقرار المالي وإمكانية التهافت على الإيداع. النصيحة الأساسية أن الحكومة الأميركية بحاجة إلى دراسة هذه الأدوات بجدية والاستعداد لصدمات محتملة، بدلاً من الافتراض بأن أزمة ديون لن تحدث أبداً.

نهاية إمبراطورية

تجاهلت واشنطن لفترة طويلة مشكلة الدين الهائل، معتمدة على النمو المرتفع وأسعار الفائدة المنخفضة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وقوة الدولار ونفوذها العسكري العالمي. لكن المسار الحالي للعجز يجعل من الصعب استمرار هذه الاستراتيجية، ويهدد قدرة الولايات المتحدة على مواجهة الأزمات المالية والوبائية والمناخية والحروب، كما يثقل النمو الاقتصادي.

من المستحيل تحديد توقيت أو شكل أزمة الدين القادمة، والتي قد تشمل التقشف، التضخم، القمع المالي، أو التخلف الجزئي عن السداد، أو مزيجاً منها. وفي كل الأحوال، فإن أزمة الدين ستزعزع استقرار الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي وقد تهدد مكانة الدولار ودور البلاد كقوة عالمية مهيمنة.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.